:*:*: (الرسول صلى الله عليه وسلم وجوامع الكلم والحكم ) :*:*:
:*:*:الكاتب :محمد عمر دولة:*:*:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فقد مَدَحَ الله - عز وجل - نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأنه (ما ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلا وَحيٌ يُوحَى). [1] قال ابنُ كثير - رحمه الله -: "فما قالَه فهو الحقُّ، وما أخبرَ به فهو الصِّدقُ، وهو الإمامُ الْمُحَكَّمُ الذي إذا تنازعَ الناسُ في شيءٍ وجبَ ردُّ نِزاعِهم إليه؛ فما وافقَ أقوالَه وأفعالَه فهو الحقُّ، وما خالفَها فهو مردودٌ على قائلِه وفاعلِه كائناً مَن كان". [2]
وإنَّ مَنطِقَهُ لا عن هوًى أبداً * * * فالقولُ منه بقولِ الله مَوصُولُ!
وشَرْعُه ناسِخٌ ما كان خالَفَهُ * * * نَصاًّ وليس على الْمَنسُوخِ تعويلُ! [3]
فصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على أفصحِ الفصحاء وأبلغِ البلغاء.
وَهوَ الفَصيحُ اللَّفظِ ذو الحِكم * * * التي أَربَتْ بَلاغَتُها عَلى لُقمانِ!
جَمَعَ الفَوائِدَ بِاِختِصارٍ مُحكَمٍ * * * لَفظٌ يَسِيرٌ في غَزيرِ مَعانِي!
عَجِبَ الصَّحابَةُ مِن فَصاحَةِ لَفظِهِ * * * وَبَلاغَةٍ فيهِ وَحُسنِ بَيانِ
قالوا نَشَأتَ بِأَرضِنا وَلِساننا * * * عِندَ الفَصاحَةِ عَن لِسانكِ وانِي
فَأَشارَ أَنَّ لِسانَ إِسماعيلَ قَد * * * كانَ اِنطَوى حِقباً مِنَ الأَزمانِ
فَحَباهُ ربُّ العَرشِ بِاللّغَةِ التي * * * دَرَسَتْ وَضَلَّت عَن بَني عَدنانِ
بِلِسانِهِ نَزلَ القُرآنُ وَفي بَنِي * * * سَعدٍ نَشْأتُهُ مَعَ الْحُضَّانِ[4]
والمرادُ بجوامِعِ الكَلِم: الاختِصارُ المفيدُ الناطقُ بالحكمة والجامعُ لأطرافِ الموضوعِ. كما قال ابنُ الأثير - رحمه الله -: "الْمُرادُ بذلك أنه أُوتِيَ الكَلِمَ الجوامِعَ للمعاني". [5]
وقد استَحسنَ الفصحاءُ جوامِعَ الكَلِم، وقرَّروا أنَّ البلاغة إيجاز. كما قال أبو هلال العسكري - رحمه الله - في كتاب (الصناعتين): "قيل لبعضهم: لم لا تُطيلُ الشِّعر؟ فقال: حَسبُك من القِلادة ما أحاطَ بالعُنق! وقيل ذلك لآخر، فقال: لستُ أبيعُه مُذارَعةً! وقيل للفرزدق: ما صيَّرَك إلى القصائدِ القِصارِ بعد الطِّوال؟ فقال: لأني رأيتُها في الصدورِ أوقعَ، وفي المحافل أجْوَل. وقالت بنتُ الحطيئة لأبيها: ما بالُ قصارِك أكثرَ من طِوالِك؟ فقال: لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق". [6] وقال الأبشيهي - رحمه الله - في (المستطرف من كل فن مستظرف): "قال البحتري: خيرُ الكلامِ ما قلَّ وجلَّ ودلَّ ولم يُمَلَّ". [7] وقال ابنُ أبي الأصبع في تحرير التحبير): "ومما جاء من ذلك في السُّنة قولُه- صلى الله عليه وسلم -: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّن)، وقوله - عليه السلام -: (لا ضررَ ولا ضِرار)...ومن أمثلةِ هذا البابِ الشعرية قول زُهير:
وهل يُنبِتُ الخطِّيَّ إلا وَشِيجُه * * * وتُغرَسُ إلا في مَنابتِها النخلُ!
وكقول النابغة:
ولستَ بِمُستَبقٍ أخاً لا تلُمُّهُ * * * على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ!
وكقول بشار:
فعِشْ واحِداً أو صِلْ أخاك فإنه * * * مُقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانِبُهْ!
إذا أنت لم تشرَبْ مِراراً على القذَى * * * ظَمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مَشارِبُهْ"! [8]
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (بُعِثتُ بجوامعِ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وبينا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَت في يدي)، وفي روايةِ مُسلمٍ - رحمه الله -: (نُصِرتُ بالرُّعْبِ على العدُو، وأُوتِيتُ جوامعَ الكَلِم، وبينما أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَ في يدي).[9] وفي روايةٍ جامعةٍ لمسلمٍ - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فُضِّلتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرْسِلتُ إلى الخلقِ كافَّة، وخُتِم بي النبيُّون). [10]
وقد مثَّل البخاري - رحمه الله - على جوامِعِ الكَلِم بما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (بَعثَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذاً إلى اليمن فقال: ادعُوا الناسَ وبشِّرا ولا تُنفِّرا ويَسِّرا ولا تُعسِّرا، قال: فقلتُ يا رسولَ الله أفْتِنا في شَرابَيْن كنا نصنَعُهما باليمن: البِتعُ وهو من العسلِ يُنبَذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير يُنبَذُ حتى يشتد. قال: وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِم بخواتمه، فقال: أنْهَى عن كلِّ مُسْكِر أسْكَرَ عن الصلاة). [11]
فله - صلى الله عليه وسلم - أكرمُ القولِ وأحسَنُه، كما قال شوقي - رحمه الله -:
إِنَّ الشَمائِلَ إِن رَقَّت يَكادُ بِها * * * يُغرى الجَمادُ وَيُغرى كُلُّ ذي نَسَمِ
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً * * * حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَ البَيانِ بِهِ * * * فِي كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أَنتَ قائِلُهُ * * * تُحيِي القُلوبَ وَتُحيِي مَيِّتَ الْهِمَمِ
وقد كان كلامُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - محفوفاً بالوضوحِ والإعادة التي تساعد على الإبانة، كما ترجَمَ البخاري - رحمه الله - في كتاب (العلم): [باب (من أعاد الحديثَ ثلاثاً لِيُفهَم عنه؛ فقال: (ألا وقولَ الزُّور؛ فما زال يُكرِّرُها). وقال ابنُ عمر: قال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (هل بلَّغتُ ثلاثاً؟)]. [12] وروى عن أنس - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان إذا سلَّمَ سَلَّم ثلاثاً، وإذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً). [13] وفي رواية: (أنه كان إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً حتى تُفهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسَلَّمَ عليهم سَلَّمَ عليهم ثلاثاً). [14]
وكلامُهُ فَصلٌ مُبِينٌ نَثْرُهُ * * * يسمُو عُقودَ الدُرِّ والْمَرْجانِ!
حُلوُ الكَلامِ إِذا تَكلَّم ناطِقاً * * * فَالحَقُّ ما فاهَت بِهِ الشّفَتانِ
ما كانَ يسردُ بَل يعدُّ كَلامهُ * * * عَدّاً لِيَعقلهُ ذَوو الأَذهانِ!
ورَحِمَ الله الصاحبَ بن عباد ما أحسنَ قولَه: "إذا تكرَّرَ الكلامُ على السمع؛ تقرَّر في القلب". [15]
فصلَّى الله على من أُوتِيَ جوامعَ الكلم وروائعَ الكَلِم، قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "خصَّهُ بِجَوامعِ الكَلِم؛ فربما جَمعَ أشتاتَ الْحِكَم والعُلومِ في كلمةٍ أو شَطرِ كلمةٍ... فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم- بجوامعِ الكَلِم وخَصَّه ببدائعِ الْحِكَم كما في الصحيحَين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِم)". [16]
وقد فسَّرَ البخاري - رحمه الله - جوامِعَ الكَلِم بقوله: "بلغَنِي أنَّ جوامِعَ الكَلِم أنَّ الله يجمعُ الأمورَ الكثيرة التي كانت تُكتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرَين أو نحو ذلك". [17]
وقال الآثاري - رحمه الله -:
قَلَّت مَدائِحُ خَلقِ اللَهِ قاطِبَةً * * * إِلا مَدائِحَهُ جَلَّت من العِظَمِ!
كَلامُهُ جاِمِعُ الخَيراتِ كَيفَ وَقَد * * * أُوتِي جَوامعَ فَضلِ اللَهِ في الكِلمِ!
يُصَرِّفُ القَولَ بِالمَعروفِ مِنهُ كَما * * * يُؤَلِّفُ اللَفظَ وَالمَعنى مِنَ الحِكَمِ
لَفظُ الكِتابِ وَلَفظُ الشارِع اِئتَلَفا * * * كَالشَمسِ وَالبَدرِ في صُبحٍ وَفي ظُلَم
يَدعو إِلى الْخَيرِ بِالتكرارِ أُمَّتَهُ * * * وَيَأمُرُ الأهلَ بِالمَعروفِ وَالْهِمَمِ
الجودُ وَالْحُسنُ وَالخَيراتُ قَد جُمِعَت * * * فيهِ مَع اللُطفِ وَالإحسانِ وَالْهِمَمِ
وقَد تَقسَّمَ فيهِ الفَضلُ أَجْمَعُهُ * * * ذاتاً وَمَعنًى وَأفعالاً مَع الكَلِمِ!
فجَوامِعُ الكَلِمِ لا تُقتَصَرُ على اختِصارِ المعاني الكثيرةِ والفوائدِ الغزيرةِ في الألفاظِ القليلة، بل تشمَلُ كذلك محاسِنَ الافتِتاحِ والختام، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "خرَّجَ الإمامُ أحمد - رحمه الله - من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: خرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودِّعِ فقال: أنا محمد النبِيُّ الأُمِّي، قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ ولا نبِيَّ بعدي: أُوتِيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتِمَه وجوامِعَه)، وذكر الحديث، وخرَّجَ أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني أُوتِيتُ جوامعَ الكَلِم وخَواتِمَه، واختصرَ لي الكلام اختصاراً)، وخرَّجَ الدارقطني - رحمه الله - من حديثِ ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، واختُصِرَ لي الحديثُ اختِصارا)". [18]
وقد قال القاضي عياض - رحمه الله – في: (الشِّفا بتعريفِ حُقوقِ المصطفى): "وأما كلامُه - صلى الله عليه وسلم- الْمُعتادُ وفصاحتُه المعلُومةُ وجوامِعُ كَلِمِه وحِكَمِه المأثورة فمنها ما لا يُوازَى فصاحةً ولا يُبارَى بلاغةً: كقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذِمَّتِهم أدناهم، وهم يَدٌ على مَن سِواهم)، [19] وقوله: (المرءُ مع من أحب)[20]... و(الناس معادن)[21]... فجَمَعَ الله له بذلك قُوةَ عارِضةِ البادية وجزالتَها ونَصاعةَ ألفاظِ الحاضرةِ ورونقَ كلامِها إلى التأييدِ الإلهي الذي مَدَدُه الوحيُ الذي لا يحيطُ بعِلمِه بشرٌ". [22]
وقد بَيَّن العلماءُ - رحمهم الله - أنَّ جوامِعَ الكَلِم تشمَلُ الوحيَ القرآني والنبوي معاً، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "في جوامعِ الكَلِم التي خُصَّ بها النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أحدُهما: ما هو في القرآنِ، كقوله - تعالى -: (إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي)، [23] قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيراً إلا أمرَتْ به ولا شراًّ إلا نَهَت عنه. والثاني: ما هو في كلامِه - صلى الله عليه وسلم - وهو مُنتَشِرٌ موجُودٌ في السُّننِ المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمعَ العلماءُ - رضي الله عنهم - جُمُوعاً من كلماتِه - صلى الله عليه وسلم - الجامعة؛ فصنَّفَ الحافظ أبو بكر بن السُّنِّي كتاباً سماه (الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة)، وجمع القاضي أبو عبد الله القُضاعي من جوامعِ الكلم المجيزة كتاباً سماه (الشِّهاب في الحكم والآداب)، وصنَّفَ على منوالِه قومٌ آخرون؛ فزادوا على ما ذكرَه زيادةً كثيرةً، وأشار الخطابي في أولِ كتابه (غريب الحديث) إلى يسيرٍ من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلساً سماه (الأحاديثَ الكُلِّية) جمعَ فيه الأحاديثَ الجوامِعَ التي يقال: إنَّ مدارَ الدِّين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة؛ فاشتَملَ مجلسُه هذا على ستةٍ وعشرين حديثاً، ثم إنَّ الفقيهَ الإمامَ الزاهدَ القدوةَ أبا زكريا يحيى النووي رحمةُ الله عليه أخذَ هذه الأحاديثَ التي أملاها ابنُ الصلاح وزاد عليها تمامَ اثنَين وأربعين حديثاً، وسَمَّى كتابَه بـ(الأربعين)، واشتهرَت هذه الأربعُون التي جَمعَها وكثرَ حِفظُها ونفعَ الله بها ببركةِ نيةِ جامعِها وحُسنِ قَصدِه - رحمه الله - تعالى". [24] نسأل الله أنْ يُصلِحَ نياتِنا وينفعَنا وينفعَ بنا.
ونختمُ الحديثَ عن (جوامِعِ الكَلِمِ) بأننا مسئولون عن تبلِيغِ محاسِنِ الدَّعوةِ الإسلامية من القرآنِ والسُّنة وما فيهما من الْحُجَجِ البالغة والبراهينِ الظاهرة بالحكمة والموعظة الحسنة. فهذه ثَمرةُ جَوامِعِ الكَلِمِ التي وَهبَها الله نَبيَّنا الخاتم - صلى الله عليه وسلم - في مَنطقِه وتبليغِه الرسالة وفي الكتابِ الْمُعْجِزِ الذي أُرْسِلَ به إلى العالَمين، وهو لنا خيرُ قُدوةٍ وأُسْوة - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا استَوفَينا هذا الواجِبَ الدَّعوي انتَقَلْنا إلى القسمِ الثاني من الخصائص: وهو المتعلِّقُ بالإعدادِ والجهادِ في سبيلِ الله، وهو يتضمَّنُ ثلاثَ خصائصَ هي: النَّصرُ بالرُّعب، وتحلِيلُ الغنائم، وامتِلاكُ مَفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ مما يزيدنا يقيناً بقُوةِ هذا الدِّين وغَلَبَتِه وإتْمامِ نُورِه على العالَمِين ولو كَرِهَ الكافرون. وهذا موضوعُنا القادم بإذن الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
- -- - - --------------------------
[1] النجم 3-4.
[2] تفسير ابن كثير 3/324.
[3] البيتان لأبي الحسن علي بن محمد التميمي.
[4] الأبيات ليحيى الصرصري - رحمه الله -.
[5] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير 1/92. الفصل الخامس، في جوامع الكلم.
[6] كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 332.
[7] المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي ص 196.
[8] تحرير التحبير لابن أبي الأصبع ص 185.
[9] صحيح مسلم 1/372، حديث 523، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[10] صحيح مسلم 1/371، حديث 523. كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[11] صحيح مسلم 3/1586، حديث 1733. كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خَمرٌ وأنَّ كلَّ خَمرٍ حرام.
[12] صحيح البخاري 1/48، كتاب العلم، باب (من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه).
[13] صحيح البخاري 1/48، حديث 94. كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.
[14] صحيح البخاري 1/48، حديث 95، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.
[15] يتيمة الدهر للثعالبي 3/281.
[16] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 9.
[17] صحيح البخاري 6/2573، حديث 6611. كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد.
[18] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 9-10.
[19] سنن ابن ماجة 2/895، حديث 2683. كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم. وسنن أبي داود 3/80، حديث2751. أول كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر. وسنن النسائي 8/24، حديث4746، كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر.
[20] صحيح البخاري 5/2283، حديث5816، كتاب الأدب، باب علامة حب الله. وصحيح مسلم 4/2032، حديث 2639، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب.
[21] صحيح البخاري 3/ 1238، حديث 3203، كتاب الأنبياء، باب قول الله (لقد كان في يوسف وإخوته آيات). و3/1288، حديث 3304، كتاب المناقب، باب قول الله (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى). وصحيح مسلم 4/1958، حديث2526. كتاب فضائل الصحابة، باب خيار الناس.
[22] الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ص 59-61.
[23] النحل 90.
[24] جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي
:*:*:الكاتب :محمد عمر دولة:*:*:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فقد مَدَحَ الله - عز وجل - نبيَّنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأنه (ما ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلا وَحيٌ يُوحَى). [1] قال ابنُ كثير - رحمه الله -: "فما قالَه فهو الحقُّ، وما أخبرَ به فهو الصِّدقُ، وهو الإمامُ الْمُحَكَّمُ الذي إذا تنازعَ الناسُ في شيءٍ وجبَ ردُّ نِزاعِهم إليه؛ فما وافقَ أقوالَه وأفعالَه فهو الحقُّ، وما خالفَها فهو مردودٌ على قائلِه وفاعلِه كائناً مَن كان". [2]
وإنَّ مَنطِقَهُ لا عن هوًى أبداً * * * فالقولُ منه بقولِ الله مَوصُولُ!
وشَرْعُه ناسِخٌ ما كان خالَفَهُ * * * نَصاًّ وليس على الْمَنسُوخِ تعويلُ! [3]
فصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على أفصحِ الفصحاء وأبلغِ البلغاء.
وَهوَ الفَصيحُ اللَّفظِ ذو الحِكم * * * التي أَربَتْ بَلاغَتُها عَلى لُقمانِ!
جَمَعَ الفَوائِدَ بِاِختِصارٍ مُحكَمٍ * * * لَفظٌ يَسِيرٌ في غَزيرِ مَعانِي!
عَجِبَ الصَّحابَةُ مِن فَصاحَةِ لَفظِهِ * * * وَبَلاغَةٍ فيهِ وَحُسنِ بَيانِ
قالوا نَشَأتَ بِأَرضِنا وَلِساننا * * * عِندَ الفَصاحَةِ عَن لِسانكِ وانِي
فَأَشارَ أَنَّ لِسانَ إِسماعيلَ قَد * * * كانَ اِنطَوى حِقباً مِنَ الأَزمانِ
فَحَباهُ ربُّ العَرشِ بِاللّغَةِ التي * * * دَرَسَتْ وَضَلَّت عَن بَني عَدنانِ
بِلِسانِهِ نَزلَ القُرآنُ وَفي بَنِي * * * سَعدٍ نَشْأتُهُ مَعَ الْحُضَّانِ[4]
والمرادُ بجوامِعِ الكَلِم: الاختِصارُ المفيدُ الناطقُ بالحكمة والجامعُ لأطرافِ الموضوعِ. كما قال ابنُ الأثير - رحمه الله -: "الْمُرادُ بذلك أنه أُوتِيَ الكَلِمَ الجوامِعَ للمعاني". [5]
وقد استَحسنَ الفصحاءُ جوامِعَ الكَلِم، وقرَّروا أنَّ البلاغة إيجاز. كما قال أبو هلال العسكري - رحمه الله - في كتاب (الصناعتين): "قيل لبعضهم: لم لا تُطيلُ الشِّعر؟ فقال: حَسبُك من القِلادة ما أحاطَ بالعُنق! وقيل ذلك لآخر، فقال: لستُ أبيعُه مُذارَعةً! وقيل للفرزدق: ما صيَّرَك إلى القصائدِ القِصارِ بعد الطِّوال؟ فقال: لأني رأيتُها في الصدورِ أوقعَ، وفي المحافل أجْوَل. وقالت بنتُ الحطيئة لأبيها: ما بالُ قصارِك أكثرَ من طِوالِك؟ فقال: لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق". [6] وقال الأبشيهي - رحمه الله - في (المستطرف من كل فن مستظرف): "قال البحتري: خيرُ الكلامِ ما قلَّ وجلَّ ودلَّ ولم يُمَلَّ". [7] وقال ابنُ أبي الأصبع في تحرير التحبير): "ومما جاء من ذلك في السُّنة قولُه- صلى الله عليه وسلم -: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّن)، وقوله - عليه السلام -: (لا ضررَ ولا ضِرار)...ومن أمثلةِ هذا البابِ الشعرية قول زُهير:
وهل يُنبِتُ الخطِّيَّ إلا وَشِيجُه * * * وتُغرَسُ إلا في مَنابتِها النخلُ!
وكقول النابغة:
ولستَ بِمُستَبقٍ أخاً لا تلُمُّهُ * * * على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ!
وكقول بشار:
فعِشْ واحِداً أو صِلْ أخاك فإنه * * * مُقارفُ ذنبٍ مرةً ومُجانِبُهْ!
إذا أنت لم تشرَبْ مِراراً على القذَى * * * ظَمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مَشارِبُهْ"! [8]
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (بُعِثتُ بجوامعِ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وبينا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَت في يدي)، وفي روايةِ مُسلمٍ - رحمه الله -: (نُصِرتُ بالرُّعْبِ على العدُو، وأُوتِيتُ جوامعَ الكَلِم، وبينما أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ فوُضِعَ في يدي).[9] وفي روايةٍ جامعةٍ لمسلمٍ - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فُضِّلتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعِلَت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُرْسِلتُ إلى الخلقِ كافَّة، وخُتِم بي النبيُّون). [10]
وقد مثَّل البخاري - رحمه الله - على جوامِعِ الكَلِم بما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (بَعثَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذاً إلى اليمن فقال: ادعُوا الناسَ وبشِّرا ولا تُنفِّرا ويَسِّرا ولا تُعسِّرا، قال: فقلتُ يا رسولَ الله أفْتِنا في شَرابَيْن كنا نصنَعُهما باليمن: البِتعُ وهو من العسلِ يُنبَذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير يُنبَذُ حتى يشتد. قال: وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِم بخواتمه، فقال: أنْهَى عن كلِّ مُسْكِر أسْكَرَ عن الصلاة). [11]
فله - صلى الله عليه وسلم - أكرمُ القولِ وأحسَنُه، كما قال شوقي - رحمه الله -:
إِنَّ الشَمائِلَ إِن رَقَّت يَكادُ بِها * * * يُغرى الجَمادُ وَيُغرى كُلُّ ذي نَسَمِ
يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً * * * حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ
حَلَّيتَ مِن عَطَلٍ جِيدَ البَيانِ بِهِ * * * فِي كُلِّ مُنتَثِرٍ في حُسنِ مُنتَظِمِ
بِكُلِّ قَولٍ كَريمٍ أَنتَ قائِلُهُ * * * تُحيِي القُلوبَ وَتُحيِي مَيِّتَ الْهِمَمِ
وقد كان كلامُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - محفوفاً بالوضوحِ والإعادة التي تساعد على الإبانة، كما ترجَمَ البخاري - رحمه الله - في كتاب (العلم): [باب (من أعاد الحديثَ ثلاثاً لِيُفهَم عنه؛ فقال: (ألا وقولَ الزُّور؛ فما زال يُكرِّرُها). وقال ابنُ عمر: قال النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (هل بلَّغتُ ثلاثاً؟)]. [12] وروى عن أنس - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان إذا سلَّمَ سَلَّم ثلاثاً، وإذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً). [13] وفي رواية: (أنه كان إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثاً حتى تُفهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسَلَّمَ عليهم سَلَّمَ عليهم ثلاثاً). [14]
وكلامُهُ فَصلٌ مُبِينٌ نَثْرُهُ * * * يسمُو عُقودَ الدُرِّ والْمَرْجانِ!
حُلوُ الكَلامِ إِذا تَكلَّم ناطِقاً * * * فَالحَقُّ ما فاهَت بِهِ الشّفَتانِ
ما كانَ يسردُ بَل يعدُّ كَلامهُ * * * عَدّاً لِيَعقلهُ ذَوو الأَذهانِ!
ورَحِمَ الله الصاحبَ بن عباد ما أحسنَ قولَه: "إذا تكرَّرَ الكلامُ على السمع؛ تقرَّر في القلب". [15]
فصلَّى الله على من أُوتِيَ جوامعَ الكلم وروائعَ الكَلِم، قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "خصَّهُ بِجَوامعِ الكَلِم؛ فربما جَمعَ أشتاتَ الْحِكَم والعُلومِ في كلمةٍ أو شَطرِ كلمةٍ... فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمداً - صلى الله عليه وسلم- بجوامعِ الكَلِم وخَصَّه ببدائعِ الْحِكَم كما في الصحيحَين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الكَلِم)". [16]
وقد فسَّرَ البخاري - رحمه الله - جوامِعَ الكَلِم بقوله: "بلغَنِي أنَّ جوامِعَ الكَلِم أنَّ الله يجمعُ الأمورَ الكثيرة التي كانت تُكتَبُ في الكُتب قبلَه في الأمرِ الواحدِ والأمرَين أو نحو ذلك". [17]
وقال الآثاري - رحمه الله -:
قَلَّت مَدائِحُ خَلقِ اللَهِ قاطِبَةً * * * إِلا مَدائِحَهُ جَلَّت من العِظَمِ!
كَلامُهُ جاِمِعُ الخَيراتِ كَيفَ وَقَد * * * أُوتِي جَوامعَ فَضلِ اللَهِ في الكِلمِ!
يُصَرِّفُ القَولَ بِالمَعروفِ مِنهُ كَما * * * يُؤَلِّفُ اللَفظَ وَالمَعنى مِنَ الحِكَمِ
لَفظُ الكِتابِ وَلَفظُ الشارِع اِئتَلَفا * * * كَالشَمسِ وَالبَدرِ في صُبحٍ وَفي ظُلَم
يَدعو إِلى الْخَيرِ بِالتكرارِ أُمَّتَهُ * * * وَيَأمُرُ الأهلَ بِالمَعروفِ وَالْهِمَمِ
الجودُ وَالْحُسنُ وَالخَيراتُ قَد جُمِعَت * * * فيهِ مَع اللُطفِ وَالإحسانِ وَالْهِمَمِ
وقَد تَقسَّمَ فيهِ الفَضلُ أَجْمَعُهُ * * * ذاتاً وَمَعنًى وَأفعالاً مَع الكَلِمِ!
فجَوامِعُ الكَلِمِ لا تُقتَصَرُ على اختِصارِ المعاني الكثيرةِ والفوائدِ الغزيرةِ في الألفاظِ القليلة، بل تشمَلُ كذلك محاسِنَ الافتِتاحِ والختام، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "خرَّجَ الإمامُ أحمد - رحمه الله - من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: خرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودِّعِ فقال: أنا محمد النبِيُّ الأُمِّي، قال ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ ولا نبِيَّ بعدي: أُوتِيتُ فواتِحَ الكَلِم وخواتِمَه وجوامِعَه)، وذكر الحديث، وخرَّجَ أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني أُوتِيتُ جوامعَ الكَلِم وخَواتِمَه، واختصرَ لي الكلام اختصاراً)، وخرَّجَ الدارقطني - رحمه الله - من حديثِ ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم، واختُصِرَ لي الحديثُ اختِصارا)". [18]
وقد قال القاضي عياض - رحمه الله – في: (الشِّفا بتعريفِ حُقوقِ المصطفى): "وأما كلامُه - صلى الله عليه وسلم- الْمُعتادُ وفصاحتُه المعلُومةُ وجوامِعُ كَلِمِه وحِكَمِه المأثورة فمنها ما لا يُوازَى فصاحةً ولا يُبارَى بلاغةً: كقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذِمَّتِهم أدناهم، وهم يَدٌ على مَن سِواهم)، [19] وقوله: (المرءُ مع من أحب)[20]... و(الناس معادن)[21]... فجَمَعَ الله له بذلك قُوةَ عارِضةِ البادية وجزالتَها ونَصاعةَ ألفاظِ الحاضرةِ ورونقَ كلامِها إلى التأييدِ الإلهي الذي مَدَدُه الوحيُ الذي لا يحيطُ بعِلمِه بشرٌ". [22]
وقد بَيَّن العلماءُ - رحمهم الله - أنَّ جوامِعَ الكَلِم تشمَلُ الوحيَ القرآني والنبوي معاً، كما قال ابنُ رجب - رحمه الله -: "في جوامعِ الكَلِم التي خُصَّ بها النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوعان: أحدُهما: ما هو في القرآنِ، كقوله - تعالى -: (إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي)، [23] قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيراً إلا أمرَتْ به ولا شراًّ إلا نَهَت عنه. والثاني: ما هو في كلامِه - صلى الله عليه وسلم - وهو مُنتَشِرٌ موجُودٌ في السُّننِ المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمعَ العلماءُ - رضي الله عنهم - جُمُوعاً من كلماتِه - صلى الله عليه وسلم - الجامعة؛ فصنَّفَ الحافظ أبو بكر بن السُّنِّي كتاباً سماه (الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة)، وجمع القاضي أبو عبد الله القُضاعي من جوامعِ الكلم المجيزة كتاباً سماه (الشِّهاب في الحكم والآداب)، وصنَّفَ على منوالِه قومٌ آخرون؛ فزادوا على ما ذكرَه زيادةً كثيرةً، وأشار الخطابي في أولِ كتابه (غريب الحديث) إلى يسيرٍ من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلساً سماه (الأحاديثَ الكُلِّية) جمعَ فيه الأحاديثَ الجوامِعَ التي يقال: إنَّ مدارَ الدِّين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة؛ فاشتَملَ مجلسُه هذا على ستةٍ وعشرين حديثاً، ثم إنَّ الفقيهَ الإمامَ الزاهدَ القدوةَ أبا زكريا يحيى النووي رحمةُ الله عليه أخذَ هذه الأحاديثَ التي أملاها ابنُ الصلاح وزاد عليها تمامَ اثنَين وأربعين حديثاً، وسَمَّى كتابَه بـ(الأربعين)، واشتهرَت هذه الأربعُون التي جَمعَها وكثرَ حِفظُها ونفعَ الله بها ببركةِ نيةِ جامعِها وحُسنِ قَصدِه - رحمه الله - تعالى". [24] نسأل الله أنْ يُصلِحَ نياتِنا وينفعَنا وينفعَ بنا.
ونختمُ الحديثَ عن (جوامِعِ الكَلِمِ) بأننا مسئولون عن تبلِيغِ محاسِنِ الدَّعوةِ الإسلامية من القرآنِ والسُّنة وما فيهما من الْحُجَجِ البالغة والبراهينِ الظاهرة بالحكمة والموعظة الحسنة. فهذه ثَمرةُ جَوامِعِ الكَلِمِ التي وَهبَها الله نَبيَّنا الخاتم - صلى الله عليه وسلم - في مَنطقِه وتبليغِه الرسالة وفي الكتابِ الْمُعْجِزِ الذي أُرْسِلَ به إلى العالَمين، وهو لنا خيرُ قُدوةٍ وأُسْوة - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا استَوفَينا هذا الواجِبَ الدَّعوي انتَقَلْنا إلى القسمِ الثاني من الخصائص: وهو المتعلِّقُ بالإعدادِ والجهادِ في سبيلِ الله، وهو يتضمَّنُ ثلاثَ خصائصَ هي: النَّصرُ بالرُّعب، وتحلِيلُ الغنائم، وامتِلاكُ مَفاتيحِ خزائنِ الأرض؛ مما يزيدنا يقيناً بقُوةِ هذا الدِّين وغَلَبَتِه وإتْمامِ نُورِه على العالَمِين ولو كَرِهَ الكافرون. وهذا موضوعُنا القادم بإذن الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
- -- - - --------------------------
[1] النجم 3-4.
[2] تفسير ابن كثير 3/324.
[3] البيتان لأبي الحسن علي بن محمد التميمي.
[4] الأبيات ليحيى الصرصري - رحمه الله -.
[5] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير 1/92. الفصل الخامس، في جوامع الكلم.
[6] كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 332.
[7] المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي ص 196.
[8] تحرير التحبير لابن أبي الأصبع ص 185.
[9] صحيح مسلم 1/372، حديث 523، كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[10] صحيح مسلم 1/371، حديث 523. كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
[11] صحيح مسلم 3/1586، حديث 1733. كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خَمرٌ وأنَّ كلَّ خَمرٍ حرام.
[12] صحيح البخاري 1/48، كتاب العلم، باب (من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه).
[13] صحيح البخاري 1/48، حديث 94. كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.
[14] صحيح البخاري 1/48، حديث 95، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.
[15] يتيمة الدهر للثعالبي 3/281.
[16] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 9.
[17] صحيح البخاري 6/2573، حديث 6611. كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد.
[18] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 9-10.
[19] سنن ابن ماجة 2/895، حديث 2683. كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم. وسنن أبي داود 3/80، حديث2751. أول كتاب الجهاد، باب في السرية ترد على أهل العسكر. وسنن النسائي 8/24، حديث4746، كتاب القسامة، باب سقوط القود من المسلم للكافر.
[20] صحيح البخاري 5/2283، حديث5816، كتاب الأدب، باب علامة حب الله. وصحيح مسلم 4/2032، حديث 2639، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب.
[21] صحيح البخاري 3/ 1238، حديث 3203، كتاب الأنبياء، باب قول الله (لقد كان في يوسف وإخوته آيات). و3/1288، حديث 3304، كتاب المناقب، باب قول الله (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى). وصحيح مسلم 4/1958، حديث2526. كتاب فضائل الصحابة، باب خيار الناس.
[22] الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ص 59-61.
[23] النحل 90.
[24] جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي