بسم الله الرحمن الرحيم رسوخ القيم الأخلاقية في الإسلام لعل من أظهر المعالم في تاريخنا الإسلامي وفي حضارتنا الإسلامية: بروز العنصر الأخلاقي فيه، ورسوخ القيم الأخلاقية الأصيلة: من الصدق والأمانة، والوفاء، والعدل، والإحسان والرحمة، والعفاف، والشجاعة، والسخاء، والعزة والتواضع، والحياء وغير ذلك من الأخلاق، التي عدها الإسلام مجسدة للإيمان، وعدها من خصال المؤمنين، كما عد الرذائل المضادة من آيات النفاق، وخصال المنافقين. جاء في وصف المؤمنين في القرآن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:1-8]. وجاء في وصف الكفار: {إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105] ووصف القرآن المنافقين بكل الرذائل الأخلاقية من الكذب والخيانة والغدر والتلون والخداع وغيرها من الصفات التي تميزهم، وفي الأحاديث الصحاح «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان»، والعبادات الشعائرية الكبرى في الإسلام التي تعد في نظر المسلمين عامة: أركان الإسلام ومبانيه العظام، من الصلاة والزكاة والصيام والحج لها -مع الأهداف الروحية- أهداف أخلاقية معروفة ومطلوبة بحيث إذا أديت على وجهها أتت أكلها، وأعطت ثمرتها الأخلاقية. فالصلاة كما ذكر القرآن {تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت:45]. والزكاة {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103] والصيام يؤهل للتقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. والحج {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وبين نبي الإسلام منزلة الأخلاق في رسالته فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (السلسلة الصحيحة:45). لهذا فالإسلام رسالة أخلاقية، حتى أن الله تعالى أثنى على رسوله قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وإن الرسول الكريم ليعلمنا: أن العبادة التى لا تثمر ثمرتها الأخلاقية: تكون عبادة مدخولة مغشوشة، غير حائزة للقبول عند الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: «رب قائم حظة من قيامه: السهر، ورب صائم حظه من صيامه: الجوع والعطش» (صحيح الترغيب:1083 صحيح لغيره)، ويقول كذلك «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (صحيح الجامع:6539)، ولا غرو أن أثرت هذة التوجيهات القرآنية، والتعليمات النبوية، أن يكون لها صداها أثرها على امتداد القرون وتوالي العصور. ومن تأمل تاريخ المسلمين العلمي والفكري، أو السلوكي والعملي: يجد أنهم حفلوا بالأخلاق والفضائل، واهتموا بها نظرا و تطبيقا، وقولا وفعلاً. كذلك ربط المسلمون بين العلم والأخلاق، فلا قيمة لعلم لا يطابقه العمل والسلوك. والعالم المنحرف السلوك مطرود عند الله، مذموم عند الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3-2]، وأثر عن المسلمين قولهم: "علم بلا عمل، كشجر بلا ثمر، أوكسحاب بلا مطر". وربط المسلمون بين العبادة والأخلاق، فمن أدى العبادات، وأساء في المعاملات، انتقدة الناس وسخروا منه، وقالوا عنه: يصلي الفرض، ويفسد في الأرض! لسانه يسبّح ويده تذبّح! ولذا شاع بين المسلمين هذه الحكمة: الدين المعاملة! حتى عدّها البعض حديثا نبويا، وما هى بحديث ولكن معناها صحيح. وربط كذلك المسلمون بين الاقتصاد والأخلاق، فلم يجيزوا كسب المال من الحرام، ولا تنميته بطريق حرام، ولا إنفاقه في مصرف حرام، وقد حرم الله الخمر مع ما فيها من منافع اقتصادية لبعض الناس، لأن إثمها أكبر من نفعها، وربط المسلمون السياسة بالأخلاق، فلم يعرفوا في تاريخهم (الغاية تبرر الوسيلة) والوصول الى الحق بطريق الباطل، وارتكاب الموبقات لتحقيق هدف نبيل في نظر صاحبه. بل لا بد من الغاية الشريفة، والوسيلة النظيفة. هذا وقد ربط المسلمون الحرب بالأخلاق، فلا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل، لهذا نهى الإسلام عن قتل الصبيان، ورأى الرسول امرأة مقتولة في إحدى الغزوات، فأنكر ذلك، وقال: «..ما كانت هذه لتقاتل..» (سنن أبي داود:2669، مسكوت عنه). ونهى خلفاؤة من بعده قواد جيوشهم عن قتل الولدان والنساء والشيوخ، وعن قطع الأشجار، وهدم البنيان، وقتل الحيوان إلا لمأكلة، وعن قتل الرهبان، وقتل الفلاحين، وكل من لا شأن له بالحرب، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً شديداً عن الغدر في الحرب، وعن التمثيل بجثث الأعداء، فالإنسان في نظر الاسلام له حرمته حيا وميتاً. ولا ينبغي للمسلمين أن يفعلوا ذلك، ولو كان أعدائهم يفعلون ذلك بهم، لأن المسلمين تحكمهم مثلهم وشريعتهم، بخلاف غيرهم. وقد أرسل بعض قواد المسلمين إلى أبي بكر رضى الله عنه وهو خليفة -بصرّة- ففتحها، فوجد فيها رأسا، ومعها رسالة تفيد أنها لأحد الأعداء الكبار. فأنكر ذلك أبو بكر، فقالوا له: يا خليفة رسول الله! إنهم يفعلون ذلك بقادتنا. فقال ابوبكر بلهجة حازمة: آستنان بفارس والروم؟ والله لا يبعث اليّ برأس بعد اليوم، وإنما يكفي الكتاب والخبر. والأخلاق في الاسلام تشمل الحياة كلها: السلم والحرب، والعلم والعمل، والاقتصاد والسياسة كما تدخل في العلاقات الأسرية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات السياسية: بين الراعي والرعية، وبين الدول بعضها ببعض، كلها يجب أن تحكمها القيم الأخلاقية. خلق الرحمة: وأركز هنا على خلق واحد من أخلاق المسلمين، كان له دوره في تاريخهم، وظهرأثره في سلمهم وحربهم، وتجلت مآثره في حضارتهم وتاريخهم. هذا الخلق هو خلق الرحمة التي جعلها القرآن عنوانا على الرساله المحمدية، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. ووصف الرسول نفسه في جملة واحدة فقال: «إنما أنا رحمة مهداة» (الجامع الصغير:2583)، على خلاف اليهود الذين اشتهروا بالغلظة والقسوة، حتى سمتهم التوراة الشعب -الغليظ الرقبة- وقال القرآن عنهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]. والمسلمون يستمدون رحمتهم من الله تعالى، الذي سمى نفسه الرحمن الرحيم، ومن أوصاف الله تعالى في القرآن: أنه سبحانه أرحم الراحمين، وأنه خير الراحمين، وقد وصف الله تعالى نفسه فقال {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. كما وصانا الرسول الكريم على أن نتحلى بخلق الرحمة «الراحمون يرحمهم الرحمن» (الألباني السلسلة الصحيحة:925). «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وقال «من لا يرحم لا يرحم» (الألباني السلسلة الصحيحة:925). ويتجلى هذا الخلق أول ما يتجلى في معاملة الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، مثل: المرضى والعجزة، ومثل الحيوان الأعجم، وغيره... وبالجملة تعد الأخلاق في الإسلام من أجمل الركائز الأساسية لهذا الدين. وكما قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا |