عبق الرَّحيق
في ترجمة الشيخ المغربي أبو عبد الله بن رشيق
ناسخ مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة البحر العميق
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه الصَّادق الأمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:
فهذا تقييدٌ شريفٌ ومنزعٌ لطيفٌ في ترجمة أحد المغاربة ـــ وهو أبو عبد الله بن رشيِّق!!؟ ـــ المعروف عنه رحمه الله أنَّه كاتب وناسخ مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ وهو بهذا العمل الجليل! قد أضفى له ولأهل المغرب قاطبة، منقبةً شريفةً ومفخرةً منيفة؛ ويكفيهم فقط في هذا! ما قد قيل: "فضل الفعل على القول مكرمة". فهي بحقٍّ منقبةٌ! قد أبى الله تعالى إلاَّ أن يجعلها في صحيفة صنع هذا المغربيِّ؛ إذ قضى عزَّ وجلَّ أن يكون سبباً في بقاء وانتشار واشتهار غالبيَّة كتب شيخ الإسلام عند النَّاس؛ إمَّا في المشرق وإمَّا في المغرب. وهو بهذا يكون فعلاً سبباً فعَّالاً في نشر السَّلفيَّة أو المنهج السَّلفيِّ في ذاك الزَّمان!! فجزاه الله عن ذلك كلِّه خير الجزاء.
فليفخر أهل المغرب إذاً! وحقَّ لهم أن يفتخروا به أيَّما افتخار؛ كيف لا وهو المغربيُّ!!!؟ فإذا كان هنالك مجدٌ وشرفٌ لهم فإنَّه بالضَّرورة يكون له فيه الفضل الأوفى والحظُّ الأسمى! فلا تعزى ـــ هنالك!! ـــ خلَّةً نبيلةً إلاَّ إليه، ولا تقصر منقبةً جليلةً إلاَّ عليه، ولا تؤثر مأثرةً نفيسةً إلاَّ عنه، ولا تقتبس سيرةً جميلةً إلاَّ منه؛ إنَّه فقط هو المجدُ والعهدُ! لمثل هذا الشَّيخ الفاضل، إنَّه فقط الشَّيخ ابن رشيِّق!!! لذلك ارتأينا أن نحرِّر فيه هذا الجزء البسيط لنقف فيه وإيَّاكم مع ترجمةٍ له، فيعرفها الخاص والعام، والمغربيُّ والمشرقيُّ، وكلَّ سلفيٍّ له ودٌّ وعشقٌ بشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وقد سمَّيناها بحمد الله بـ "عبق الرَّحيق في ترجمة الشَّيخ المغربي أبو عبد الله بن رشيق"؛ وهي على صغر حجمها وفقر مادَّتها!!! إلاَّ أنَّها ـــ وبالرَّغم من ذلك كلِّه ـــ قد جمعت لنا شتات ما تفرَّق من هنا وهنالك، لذلك نرجو أن ينتفع بها الإخوان، وأن يبارك الله تعالى فيها بالقبول، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
فصل: في معرفة الشَّيخ المغربي
قلت: في مادة ( رشيِّق ) بالتَّصغير(1) أو بتصغير المثقَّل(2)؛ وقال الصفديُّ(3): بضمِّ الرَّاء وفتح الشِّين المعجمة وتشديد الياء؛ آخر الحروف مصغَّراً. وهما اثنان: الجدُّ والحفيد. وهذا الثَّاني هنا هو محلُّ الكلام عليه ومحلُّ التَّرجمة، إذ قد اتَّفق كلٌّ من أئمَّة التَّراجم كالإمام الذَّهبيِّ والحافظ ابن كثيرٍ وابن قاضي شهبة وابن رافع السُّلاميِّ والحافظ ابن حجر؛ على أنَّه هو: الشَّيخ أبو عبد الله بن رُشيِّقٍ؛ كذا ذكره الحافظ ابن عبد الهادي المقدسيُّ(4) والزِّركليُّ(5)؛ إلاَّ أنَّه ذكره من غير كنيته(6) كما هي محقَّقةٌ عند غيره(7). وقد ذكره أيضاً ابن مرِّي الحنبليُّ(8) في "رسالته"(9) أكثر من مرَّة بالكنية، ومثله ابن حامد الشَّافعيُّ(10).
وكذلك ذكره ـــ أو سمَّاه ـــ محمَّد بن عبَّاد الشُّجاعيُّ في "الفصل"(11) بروايته عنه فيها؛ فقال رحمه الله: ((أخبرني الشَّيخ أبو عبد الله محمَّد بن رشيِّق المغربيُّ المالكيُّ، أنَّ علاء الدِّين...)).
قلت: وهذه منه زيادة نافعةٌ ماتعةٌ أفادنها هنا، وقد أكَّدها لنا المترجم له هو بنفسه وخطِّه في آخر رسالة "الاجتماع والإفتراق في الأيمان والطَّلاق" لشيخ الإسلام ابن تيميَّة(12)، وكذا في آخر "رسالة في العقل والرُّوح"(13)؛ وقال: ((محمَّد بن عبد الله بن أحمد سبط ابن رشيِّقٍ المالكيُّ)).
وهو ما أثبته الحافظ في "تبصيره"(14) مع زيادة مهمَّة؛ وهي قوله: ((المرَّاكشيُّ)). ومثله ـــ أو لنقل ـــ أثبت من ذلك كلِّه، ما جاء مذكوراً عند ابن رافع في "ذيله"؛ فقال رحمه الله: ((أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن أحمد المرَّاكشيُّ، ثمَّ المصريُّ(15) المالكيُّ(16)، سبط الإمام عبد الوهَّاب بن رشيِّق))(17).
فهذا منه ـــ على الأقلِّ لنا ـــ نقلٌ واسع وذكرٌ نافعٌ، في بيان ترجمته هذه الدَّقيقة، ومع ذلك اشتهر وعرف كما قالوا بـ "ابن رشيِّق المغربيِّ!!!"، وأحياناً أخرى بـ "ابن رشيِّق المالكيِّ!!!".
قال الزِّركلِّيُّ(18): من أهل دمشق.
وقال ابن رافعٍ(19): ((وأقام بدمشق مدَّة)).
كما اتَّفقوا(20) أيضاً على أنَّه رحمه الله قد توفِّي في يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبعمائة(21).
فصل: في معرفة جدُّه الإمام
ذكر ابن رافع أنَّه: ((سبط الإمام عبد الوهَّاب بن رشَيِّق))(22). وقال الحافظ(23): ((هو جدٌّ له)).
ومثله الإمام الذَّهبيُّ في "تاريخه"(24)؛ وقال(25) هو: ((جدٌّ لأمِّه)). وقد سمَّاه باسمه؛ وقال(26): ((عبد الوهَّاب بن يوسف بن محمَّد بن خلف، الفقيه أبو محمَّد ابن الفقيه أبي الحجَّاج الأنصاريُّ القَصْريُّ المغربيُّ المالكيُّ)).
ومثله ابن رافع(27) وقال: ((الفقيه أبو محمَّد عبد الوهَّاب بن أبي الحجَّاج يوسف بن محمَّد ابن خلف بن محمَّد بن أيُّوب، الأنصاريُّ القصْريُّ المالكيُّ؛ المعروف بابن رشيِّق)). ومثله الحافظ ابن ناصر الدِّين الدِّمشقيُّ(28).
وكذلك ذكره الحافظ(29)؛ لكن من غير الكنية. وكذا الصفديُّ(30) ـــ متابعة للذَّهبيِّ! ـــ؛ فقال: ((أبو محمَّد ابن الفقيه أبي الحجَّاج القصْريِّ)).
قال ابن ناصر الدِّمشقيُّ ـــ في معنى قوله القصْريِّ ـــ(31):
((من أهل قَصْر عبد الكريم من الغرب، ولهذا يقال له: القَصْريُّ))(32).
قال الذَّهبيُّ(33) فيه: ((الفقيه القدوة،...، شيخٌ عالم، صالحٌ خيِّرٌ، ذو مروءةٍ وفتوَّة وتعفُّفٍ وفقر.
حمل عن أبيه الرَّاوي(34)، عن عياض(35) وأبي بكر بن العربيِّ(36) وعن عبد الجليل القصريِّ(37) مصنِّف "شعب الإيمان"... )).
وقال الحافظ الدِّمشقيُّ(38): ((سمع من أبيه الفقيه أبي الحجَّاج يوسف بن رشيِّق الأندلسيِّ.
وأبوه أبو الحجَّاج هذا سمع من القاضيين: أبي بكر محمَّد بن العربيِّ، وعياض بن موسى السَّبتيِّ)).
قال الذَّهبيُّ(39): ((وتصدَّر بالجامع العتيق بمصر)). ومثله ابن رافع(40)؛ وزاد: ((من الفضلاء الصُّلحاء)).
وقال الحافظ(41): ((كان أحد المتصدِّرين بجامع عمروٍ)).
كتب عنه الرَّشيد العطَّار(42) حكاية(43)؛ كذا ذكر الإمام الذَّهبيُّ؛ وقال(44): ((ومات ليلة عيد الفطر، عن ثلاثٍ وستِّين سنة)). ونحوه ابن رافع وكذا ابن ناصر الدِّين؛ وقالا: ((في سنة خمسين وستُّمائة))، ومثلهم الحافظ(45).
فصل: في معرفة أمِّه العابدة
قلت: أمُّه تسمَّى (فاطمة!!)؛ وهي ابنت الفقيه أبو محمَّدٍ عبد الوهَّاب المالكيُّ. قال ابن رافع(46):
((وابنته فاطمة امرأةٌ صالحةٌ عابدةٌ كثيرة الأوراد)). ونحوه أيضاً في "التَّبصير"(47). ثمَّ زاد ابن رافع(48):
((توفِّيت في ليلة نصف شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة. ودفنت بمقبرة الصُّوفيَّة بظاهر دمشق. ذكرها شيخنا أبو محمَّدٍ البرزاليُّ(49) في "تاريخه".. )).
فصل: في معرفة مشايخه
قلت: من المعلوم أنَّ له شيخان اثنان؛ وهما:
الأوَّل: وهو أصل هذه التَّرجمة؛ وهو شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وهو غنيٌّ عن التَّعريف كما تعلم.
والآخر: أبا الحسن عليِّ بن المظفَّر بن إبراهيم الكنديِّ الوداعيُّ(50) صاحب "التَّذكرة الكنديَّة"!!!
قال ابن رافع(51): ((سمع من أبي الحسن عليِّ بن المظفَّر بن إبراهيم الكنديِّ، وكتب عن الشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة كثيراً من كلامه)).
ونحوه الحافظ ابن حجر في "التَّبصير"(52).
وكذلك لا ننسى شيخه الأوَّل(53)؛ وهو جدُّه الفقيه أبو محمَّدٍ عبد الوهَّاب المالكيُّ!!! ـــ فهو هنا وبحكم النَّشأة ودم القرابة، وأيضاً بحكم التَّعليم الأوَّلي ـــ يكون بلا ريبٍ قد أخذ عنه الفقه والمذهب المالكي؛ وهذا لا ينكره إلاَّ معاندٌ أو جاحدٌ(54).
فصل: في معرفة بعض من صفاته وأحواله
قلت: وممَّا قد حكاه عنه الحافظ ابن كثير هنا قوله: ((...ديِّناً، عابداً، كثير التِّلاوة، حسن الصَّلاة، له عيالٌ وعليه ديونٌ؛ رحمه الله وغفر له آمين(55) )).
فصل: في معرفة ما قالوا فيه
قلت: ومن المهمِّ هنا! أن نعرف ما قالوا فيه من عدالةٍ أو جرحٍ إن وجد ما يعدَّل به أويجرَّح، و هذا ـــ كما تعلم!! ـــ من أمانة العلم والنَّقل.
والموجود عندنا هو فقط ما ذكره الحافظ ابن كثير من قوله فيه: ((لا بأس به!!))(56). وهذه من ألفاظ التَّعديل، زيادة أيضاً إلى إطلاق كلٌّ من ابن عبد الهاديِّ(57) وابن مرِّي الحنبليِّ(58) فيه بأنَّه: ((شيخ!!)). ومثلهما أيضاً ابن حامد الشَّافعيُّ في "رسالته"(59) له؛ ذكرها صاحبي "الجامع"(60) وصاحب "العقود الدريَّة". زيادة أيضاً إلى قول الإمام الذَّهبيِّ فيه: ((صاحبنا الفقيه!!))(61).
وكلامه هذا قد حوى لنا في طيِّه فائدتان دقيقتان:
الأولى: في إطلاق الصُّحبة له؛ أي أنَّه رحمه الله صاحب أصحاب وتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ كالذَّهبيِّ وابن كثير وابن قيِّم الجوزيَّة وابن عبد الهاديِّ وابن مرِّي وغيرهم، فضلاً كذلك عن صحبته له هو بعينه والتَّتلمذ عليه.
والثَّانية: في إطلاق عليه لقب الفقيه؛ كيف لا؟! وهو حفيد الفقيه، ثمَّ هذه شهادة لها وزنٌ هنا؛ فتنبَّه!!!
فصل: في مناقشة كلام ابن كثير فيه
وكذا في ذكر مؤلَّفاته
قلت: لقد ذكرنا سابقاً (ص/13) أنَّ له معرفة بشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، كما قد كتب كتبه!!! كما حكاه ابن رافع(62)؛ وقال: ((وكتب عن الشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة كثيراً من كلامه)). بينما الحافظ ابن كثير يقول ـــ موضِّحاً ذلك ومصرِّحاً ومؤكِّداً ـــ أنَّه: ((كاتبُ مصنَّفات شيخنا العلاَّمة ابن تيميَّة))(63). ومثله الزِّركلِيُّ(64).
ثمَّ زاد ابن كثير؛ فقال: ((كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه، إذا عزَب شيءٌ منه على الشَّيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة))(65).
وهذا كلامٌ(66) دقيقٌ يحوي على لطيفتين هامَّتين:
الأولى: أنَّه بحقٍّ يعتبر ـــ وهذا اعترافٌ وشهادة من ابن كثيرٍ ـــ الكاتب والنَّاسخ الأليَقُ والأجدرُ لما كتبه شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، كما يكون أيضاً!! قد نسخ كلَّ مصنَّفاته الكثيرة؛ وهو محتملٌ هنا! أو قل البعض منها؛ وهذا واضحٌ من قول ابن كثير وابن مرِّي الآتي. كما أنَّه ومن الممكن جدًّا! أن يقال ـــ وهو محتملٌ هنا ومقبولٌ!! ـــ: أن يكون هو السَّبب في اشتهار وانتشار كلَّ كتب شيخ الإسلام؛ والله أعلم.
والثَّانية: في قوله: ((كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه، إذا عزَب شيءٌ منه على الشَّيخ استخرجه أبو عبد الله هذا))؛ فهذا شاهدٌ قويٌّ، وقيدٌ في غاية الدقَّة والأمانة يؤكِّد ما ذهبنا إليه في اللَّطيفة الأولى!!! من أنَّه ـــ والله أعلم ـــ هو سبب انتشار كتب شيخ الإسلام؛ وهذا بما امتاز به من دون غيره ممَّن كان أقرب منه، فإنَّه له خصوصيَّتان قد أهَّلتاه وميَّزتاه عن كثيرٍ من تلامذته:
(أحدهما): سرعة الكتابة كما أفاده الحافظ ابن كثير؛ أي: في الكتابة والنَّسخ، إمَّا ما يمليه الشَّيخ، أو ما كتبه هو بيده رحمه الله.
وهو بهذا! يكون له السَّبق والتفرُّد في كتب الشَّيخ ابن تيميَّة، كما يكون باعتبار هذا! الفضل في انتشارها.
(والأخرى): في معرفته الجيِّدة والفائقة بخطِّ شيخ الإسلام رحمه الله؛ حتَّى أنَّه كان من أبصر به منه، وهي ميزةٌ في غاية الأهميَّة هنا لمن يتدبَّر أو ينتبه! لأنَّه إذا ما عزب شيخ الإسلام عن خطِّه، فبالأحرى تلامذته ومن ينقل عن كتبه أو ينسخها؛ هم أولى بهذا العزب هنا كما تعلم!!؟ فممَّا كانت الإستفادة والإعتماد في هذه الحالة؛ وهي معضلةٌ! على ما امتاز به فقط هذا المغربيُّ ابن رشيِّق؛ في فكِّ الخطِّ وقراءته كما يجب أن يكون في أصله. وهو بهذا! يكون له الفضل في انتشار كلَّ كتب شيخ الإسلام أو بعضها على الأقلِّ؛ انتشاراً يليق بإمامته وجلالته، ويليق كذا بوزنه الثَّقيل في عالم السَّلفيَّة.
((تتمَّةٌ مفيدةٌ)): يقال: إنَّ الشَّيخ ابن رشيِّق المغربيِّ، وكذا شيخ الإسلام ابن القيِّم الجوزيَّة؛ هما من أخصِّ النَّاس بشيخ الإسلام، إذ يختصُّ كلٌّ منهما بما يفوت الآخر.
فلابن رشيِّق هذا! من النُّفوذ في المعرفة بخطِّه ـــ كما علمته آنفاً!!! ـــ وأيضاً بتفاريق فتاويه الكثيرة ما قد يفوت ابن القيِّم الجوزيَّة، وعند ابن القيِّم الجوزيَّة من الإختصاص بشيخه في (السِّجن!) وخارجه ما يعزب عن علم المغربيِّ، وفي كلِّ فضلٍ وخيرٍ.
لكنَّ - وكما يقال: - أنَّ خصوصيَّة التَّلميذ وقربه من الشَّيخ قد لا تعني تقدُّمه في العلم، بل و لا ضبط علم شيخه. وقد وجد من لازم العلماء دهراً طويلاً، ولم يكن كغيره ممَّن قلَّ ملازمتهم وكثر انتفاعهم به؛ وهو ما حكاه أحد الإخوان في الشَّبكة؛ وهو حقٌّ لا يردُّ، ولا يشاحح فيه، بل وكما قيل: "العلم مواهب!!!؟".
فلا عجب! أن ترى ابن رشيِّق هذا؛ أنَّ أكثر ما مدح فيه أنَّه كاتب كتب الشَّيخ متمكِّنٌ من قراءة خطِّه؛ لا يخفى أنَّ هذا مدحٌ مخصوصٌ؛ لا يلزم منه غير ما عيِّن كما أفاده من قبل الحافظ ابن كثير.
إلاَّ أنَّ الإمام الذَّهبيُّ له رأيٌ آخر فيه! فقد نعته رحمه الله في كتابه "المشتبه"(67) بـ: ((صاحبنا الفقيه!!!)). وهي منه زيادة علمٍ يعتدُّ بها هنا! فلا يهضم حقَّه في كونه ثقةٌ؛ كما هو مفهومٌ من قوله: ((صاحبنا))، وأنَّه أيضاً! صاحب فقه(68). وهو على المذهب (المالكيِّ!)؛ كما نسبه ابن رافع آنفاً؛ فقيل له: المالكيُّ!!!
لكنَّه وبالرَّغم من ذلك! فهو لا يقارن ـــ أبداً ـــ بتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة المبرزين؛ ولا نحاول أن نقول ذلك أو ندَّعيه؛ بعد تلميح ابن كثير إلى ذلك.
وهذه نكتةٌ مهمَّةٌ! يجب التَّنبيه عليها وبيانها، وهي واضحةٌ جليَّةٌ في عبارته السَّابقة؛ قال رحمه الله: ((كاتب مصنَّفات..، كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه..، سريع الكتابة، لا بأس به..)).
فهو لم يصفه بشيءٍ من العلم، بل كان جلُّ المدح على تلك المزيَّة؛ وهي لا تضرُّ ألبتَّه! بعد وصف الذَّهبيُّ له بالفقيه، وأيضاً إطلاق المشيخة عليه كلٌّ من الحافظ ابن عبد الهاديِّ، وكذا الشَّيخ ابن حامد الشَّافعيِّ؛ والذي قال فيه: ((الشَّيخ الإمام العالم العامل))(69). وهذه زيادة(70) في باب (الإمامة والعلميَّة!) تلحق في ما ذكرناه فيه سابقاً في مكانه.
وأيضاً ابن مرِّي الحنبليُّ؛ وهو ما أكَّده تأكيداً أكيداً! في "رسالته(71)" إلى تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ فقال: ((فاحتفظوا بالشَّيخ أبي عبد الله ابن رشيِّق ـــ أيَّده الله ـــ وبما عنده من الذَّخائر والنَّفائس، وأقيموا لهذا المهمِّ الجليل بأكثر ما تقدرون عليه، ولو تألمَّتم أحياناً من مطالبته؛ لأنَّه بقي في فنِّه فريداً(72)!!! ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق، وكلُّ أحوال الوجود لا بدَّ فيها من العوارض والأنكاد؛ فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بجموع كلفته؛ فإنَّ الشَّدائد تزول، والخيرات تغتنم!!!؟ فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم، وأنا أستودع الله دينه وما عنده، وأوصيه بالصَّبر أيضاً وبمعاملة الله سبحانه في ما هو فيه(73)، وإن قصَّر الإخوان في حقِّه، وليطلب نصيبه من الله تعالى متَّكلاً عليه في رزقه المضمون، ومجْمِلاً في الطَّلب؛ لأنَّه ما قُسِّم لا بدَّ له أن يكون))(74).
ومثله ـــ أيضاً ـــ الحافظ ابن عبد الهاديُّ المقدسيُّ في "العقود الدُّرِّيَّة"(75)؛ فقال رحمه الله: ((قال الشَّيخ أبو عبد الله [يعني به: ابن رشيِّق](76): لو أراد الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله أو غيره حصرها يعني مؤلَّفات الشَّيخ لما قدروا؛ لأنَّه ما زال يكتب، وقد منَّ الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقلٍ.
وأخبرني غير واحدٍ: أنَّه كتب مجلَّداً لطيفاً في يومٍ. وكتب غير مرَّة أربعين ورقةً في جلسةٍ وأكثر.
وأحصيت ما كتبه في يومٍ وبيَّضْتُه فكان ثماني كراريس في مسألةٍ من أشكل المسائل، وكان يكتب على السُّؤال الواحد مجلَّداً، وأمَّا جواب؛ يكتب فيه خمسين ورقةً وستِّين وأربعين وعشرين فكثير، وكان يكتب الجواب؛ فإن حضر من يبيِّضه وإلاَّ أخذ السَّائل خطَّه وذهب. ويكتب قواعد كثيرة في فنونٍ من العلم في الأصول والفروع والتَّفسير وغير ذلك، فإن وجد(77) من ينقله من خطِّه وإلاَّ لم يشتهر، ولم يعرف، وربَّما أخذه بعض أصحابه(78)؛ فلا يقدر على نقله ولا يردُّه إليه فيذهب.
وكان كثيراً ما يقول(79): قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشَّيء؛ فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو!؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردُّوا خطِّي وأظهروه ليُنقل، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه ولا أين هو؟! فلهذه الأسباب وغيرها تعذَّر إحصاء ما كتبه، وما صنَّفه، وما كفى هذا! إلاَّ أنَّه لمَّا حُبس وتفرَّق أتباعه، وتفرَّقت كتبه، وخوَّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، ذهب كلَّ أحدٍ بما عنده، وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرِّب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتَّى أنَّ منهم من تُسرق كتبه أو تجحد فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها، فبدون هذا تتمزَّق الكتب والتَّصانيف كلَّ ممزَّق، ولولا أنَّ الله تعالى لطف وأعان، ومنَّ وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه، لما أمكن لأحدٍ أن يجمعها، ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه وجمعها وإصلاح ما فسد منها وردِّ ما ذهب منها: ما لو ذكرته لكان عجباً، يعلم به كلَّ منصفٍ أن لله عناية به، وبكلامه؛ لأنَّه يذبُّ عن سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).
قلت: ومن هذا النَّقل المذكور قبل قليل نستفيد بعض من مزايا هذا المغربيِّ؛ وهي:
الأولى: أنَّه كان من أخصِّ أصحاب شيخ الإسلام، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصاً على جمعه؛ وهو ما أفاده الإمام ابن عبد الهاديُّ في كتابه "العقود الدريَّة"؛ فقال(80): ((وكان من أخصِّ أصحاب شيخنا، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصاً على جمعه)). وهذا منه فيه شهادة حقٍّ وصدقٍ وعدلٍ على تلك الخصوصيَّة في الصُّحبة من جهة، ومن جهةٍ أخرى! في خصوصيَّة كثرة الكتابة والجمع(81)؛ وكفى بها من شهادة هنا.
والثَّانية: أنَّه رحمه الله كان مرجعاً حقيقيًّا لكتب شيخه ابن تيميَّة؛ وهذا بما حواه من ذخائره ونفائسه، وكذا وهو المهمُّ؛ بقدرته على قراءة وإصلاح ما عزب عن غيره، وهو ما أفاده ابن مرِّي الحنبليُّ وابن كثير، وكذا ما ذكره ابن عبد الهاديُّ آنفاً.
والثَّالثة: تفردِّه عن أقرانه في هذا الفنِّ(82).
والرَّابعة: أنَّه هو من كان يقوم بتبييض ما يكتبه شيخ الإسلام؛ بدليل قوله المنقول: ((وأحصيت ما كتبه في يومٍ وبيَّضْتُه فكان ثماني كراريس)). وهذا في الغالب!! بدليل التفرُّد المذكور.
والخامسة: أنَّه كانت بينه وبين شيخ الإسلام صحبةٌ خاصَّة، كما كانت له قبل أن يتوفَّى في سجنه بقليلٍ مكاتبات ومراسلات، ومنها ما قد صرَّح به الحافظ ابن عبد الهاديُّ؛ فقال(83):
((قال الشَّيخ أبو عبد الله بن رشيِّق:..ثمَّ لمَّا حبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب على جميع القرآن مرتَّباً على السُّور؛ فكتب يقول: إنَّ القرآن فيه..)).
وقال(84) أيضاً: ((وأرسل إلينا شيئاً يسيراً ممَّا كتبه في هذا الحبس..)).
والخامسة: أنَّه يمثِّل ـــ في حقيقة الأمر! ـــ فهرسة(85) حيَّة وواقعيَّة لغالبيَّة كتب شيخ الإسلام رحمه الله. كيف لا؟! وهذا الشَّيخ عبد الله بن حامد الشَّافعيُّ يطلب منه ذلك؛ فقال(86): ((لكن لمَّا سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرست مصنَّفات الشَّيخ ـــ رضي الله عنه ـــ وتأخَّر ذلك عنِّي)).
والسَّادسة: أنَّه وباعتبار ما قلناه سابقا ولاحقاً! يعدُّ ـــ ولا فخر؛ ومن غير منازع!!؟ ـــ الوحيد والفريد من دون غيره؛ ممَّن أحصى أسماء مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله. فإنَّ له في هذا المجال كتابٌ نفيسٌ في الباب يحمل عنوان: "أسماء مؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة"؛ حتَّى أنَّه وإلى حدِّ السَّاعة! قد بقيت منه قطعة صالحة(87)، لكنَّ النَّاس يعزونها ـــ جهلاً وخطأً! ـــ إلى ابن القيِّم الجوزيَّة، وهو ما وقع عند الدَّكتور صلاح الدِّين المنجد والشَّيخ بكر أبو زيد، ومن قبلهما الشَّيخ جميل العظْم، وكذا الشَّيخ العلاَّمة طاهر الجزائريُّ، إلى أن قيَّض الله تعالى الشَّيخ الفاضل النقَّاب محمَّد عزير شمس وكذا قرينه الشَّيخ عليُّ بن محمَّد العمران؛ فردَّا الكتاب إلى من رصَّفه وصنَّفه، ألا وهو المترجم له!!! وهو الشَّيخ المغربيُّ أبو عبد الله بن رشيِّق؛ جزاه الله خير الجزاء، وأدخله فسيح جنانه آمين!!!
فصل: تتمَّةٌ في ذكر مؤلَّفات ابن رشيِّق
وتتمَّة لما ذكرناه آنفاً! فإنَّنا نضيف هنا قائلين:
أنَّ لابن رشيِّق المغربيِّ هذا مؤلَّفان هامَّان؛ وهما:
(الأوَّل): وهو من تأليفه؛ وهو بعنوان "أسماء مؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة"؛ وقد رأيناه سابقاً فلا مزيد عليه.
(والثَّاني): وهو فقط من روايته؛ وهو بعنوان "فصلٌ في مبشِّرات رآها الصَّالحون للشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد ابن تيميَّة بعد موته إلى رحمة الله"(88)؛ يرويها محمَّد بن عبَّاد الشُّجاعيُّ عن تلاميذ الشَّيخ ومعاصريه.
قلت: ومن هؤلاء التَّلاميذ المقرَّبين بقوَّةٍ من شيخ الإسلام رحمه الله ومن أصحابه! هو الشَّيخ أبي عبد الله ابن رشيِّق المغربيُّ هذا؛ والذي يروي(89) غالبيَّة هذه الرُّؤى المذكورة في هذا الجزء أو في هذه الرِّواية الذي يرويها الشُّجاعيُّ؛ وجملتها اثنتا عشرة رؤية، انفرد ابن رشيِّق بسبعٍ منها، والبقيَّة لغيره ممَّن ذكرت أسماؤهم فيها(90).
الخاتمة
هذا! وقد أتينا في الأخير على ختام وإتمام هذه التَّرجمة الموجزة، بما لها أو عليها!!؟ لكنَّ الحقَّ والحقُّ نقول: أنَّ إخوانه وأقرانه قد قصَّروا في حقِّه؛ إذ كان رحمه الله يعاني من شظف العيش ومرارة الحياة بسبب قلَّة المال لديه، وهو ما أكَّده سابقاً الحافظ ابن كثير، وكذا الشَّيخ أحمد بن مرِّي الحنبليُّ كما في "رسالته"(91) السَّابقة؛ والشَّاهد فيها هو قوله مثلاً: ((..فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بمجموع كلفته)). وقوله أيضاً: ((وأوصيه بالصَّبر أيضاً، وبمعاملة الله سبحانه فيما هو فيه، وإن قصَّر الإخوان عنه!!!)). وقوله: ((فساعدوه وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همَّته)).
فهذا يدلُّك على فقر(92) الرَّجل فعلاً!! ومع ذلك قام بما هو عليه واجبٌ في نشر كتب شيخه وجمعها كما يجب؛ فجزاه الله خير الجزاء.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا ورسولنا وحبيبنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتَّبع سبيلهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
كتبه بقلمه راجي عفو ربِّه: أبو حامد الإدريسي
يوم السبت بعد صلاة العصر 19 محرم 1440هـ الموافق لـ 29 سبتمبر 2018م
في ترجمة الشيخ المغربي أبو عبد الله بن رشيق
ناسخ مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة البحر العميق
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه الصَّادق الأمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد:
فهذا تقييدٌ شريفٌ ومنزعٌ لطيفٌ في ترجمة أحد المغاربة ـــ وهو أبو عبد الله بن رشيِّق!!؟ ـــ المعروف عنه رحمه الله أنَّه كاتب وناسخ مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ وهو بهذا العمل الجليل! قد أضفى له ولأهل المغرب قاطبة، منقبةً شريفةً ومفخرةً منيفة؛ ويكفيهم فقط في هذا! ما قد قيل: "فضل الفعل على القول مكرمة". فهي بحقٍّ منقبةٌ! قد أبى الله تعالى إلاَّ أن يجعلها في صحيفة صنع هذا المغربيِّ؛ إذ قضى عزَّ وجلَّ أن يكون سبباً في بقاء وانتشار واشتهار غالبيَّة كتب شيخ الإسلام عند النَّاس؛ إمَّا في المشرق وإمَّا في المغرب. وهو بهذا يكون فعلاً سبباً فعَّالاً في نشر السَّلفيَّة أو المنهج السَّلفيِّ في ذاك الزَّمان!! فجزاه الله عن ذلك كلِّه خير الجزاء.
فليفخر أهل المغرب إذاً! وحقَّ لهم أن يفتخروا به أيَّما افتخار؛ كيف لا وهو المغربيُّ!!!؟ فإذا كان هنالك مجدٌ وشرفٌ لهم فإنَّه بالضَّرورة يكون له فيه الفضل الأوفى والحظُّ الأسمى! فلا تعزى ـــ هنالك!! ـــ خلَّةً نبيلةً إلاَّ إليه، ولا تقصر منقبةً جليلةً إلاَّ عليه، ولا تؤثر مأثرةً نفيسةً إلاَّ عنه، ولا تقتبس سيرةً جميلةً إلاَّ منه؛ إنَّه فقط هو المجدُ والعهدُ! لمثل هذا الشَّيخ الفاضل، إنَّه فقط الشَّيخ ابن رشيِّق!!! لذلك ارتأينا أن نحرِّر فيه هذا الجزء البسيط لنقف فيه وإيَّاكم مع ترجمةٍ له، فيعرفها الخاص والعام، والمغربيُّ والمشرقيُّ، وكلَّ سلفيٍّ له ودٌّ وعشقٌ بشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وقد سمَّيناها بحمد الله بـ "عبق الرَّحيق في ترجمة الشَّيخ المغربي أبو عبد الله بن رشيق"؛ وهي على صغر حجمها وفقر مادَّتها!!! إلاَّ أنَّها ـــ وبالرَّغم من ذلك كلِّه ـــ قد جمعت لنا شتات ما تفرَّق من هنا وهنالك، لذلك نرجو أن ينتفع بها الإخوان، وأن يبارك الله تعالى فيها بالقبول، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
فصل: في معرفة الشَّيخ المغربي
قلت: في مادة ( رشيِّق ) بالتَّصغير(1) أو بتصغير المثقَّل(2)؛ وقال الصفديُّ(3): بضمِّ الرَّاء وفتح الشِّين المعجمة وتشديد الياء؛ آخر الحروف مصغَّراً. وهما اثنان: الجدُّ والحفيد. وهذا الثَّاني هنا هو محلُّ الكلام عليه ومحلُّ التَّرجمة، إذ قد اتَّفق كلٌّ من أئمَّة التَّراجم كالإمام الذَّهبيِّ والحافظ ابن كثيرٍ وابن قاضي شهبة وابن رافع السُّلاميِّ والحافظ ابن حجر؛ على أنَّه هو: الشَّيخ أبو عبد الله بن رُشيِّقٍ؛ كذا ذكره الحافظ ابن عبد الهادي المقدسيُّ(4) والزِّركليُّ(5)؛ إلاَّ أنَّه ذكره من غير كنيته(6) كما هي محقَّقةٌ عند غيره(7). وقد ذكره أيضاً ابن مرِّي الحنبليُّ(8) في "رسالته"(9) أكثر من مرَّة بالكنية، ومثله ابن حامد الشَّافعيُّ(10).
وكذلك ذكره ـــ أو سمَّاه ـــ محمَّد بن عبَّاد الشُّجاعيُّ في "الفصل"(11) بروايته عنه فيها؛ فقال رحمه الله: ((أخبرني الشَّيخ أبو عبد الله محمَّد بن رشيِّق المغربيُّ المالكيُّ، أنَّ علاء الدِّين...)).
قلت: وهذه منه زيادة نافعةٌ ماتعةٌ أفادنها هنا، وقد أكَّدها لنا المترجم له هو بنفسه وخطِّه في آخر رسالة "الاجتماع والإفتراق في الأيمان والطَّلاق" لشيخ الإسلام ابن تيميَّة(12)، وكذا في آخر "رسالة في العقل والرُّوح"(13)؛ وقال: ((محمَّد بن عبد الله بن أحمد سبط ابن رشيِّقٍ المالكيُّ)).
وهو ما أثبته الحافظ في "تبصيره"(14) مع زيادة مهمَّة؛ وهي قوله: ((المرَّاكشيُّ)). ومثله ـــ أو لنقل ـــ أثبت من ذلك كلِّه، ما جاء مذكوراً عند ابن رافع في "ذيله"؛ فقال رحمه الله: ((أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن أحمد المرَّاكشيُّ، ثمَّ المصريُّ(15) المالكيُّ(16)، سبط الإمام عبد الوهَّاب بن رشيِّق))(17).
فهذا منه ـــ على الأقلِّ لنا ـــ نقلٌ واسع وذكرٌ نافعٌ، في بيان ترجمته هذه الدَّقيقة، ومع ذلك اشتهر وعرف كما قالوا بـ "ابن رشيِّق المغربيِّ!!!"، وأحياناً أخرى بـ "ابن رشيِّق المالكيِّ!!!".
قال الزِّركلِّيُّ(18): من أهل دمشق.
وقال ابن رافعٍ(19): ((وأقام بدمشق مدَّة)).
كما اتَّفقوا(20) أيضاً على أنَّه رحمه الله قد توفِّي في يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبعمائة(21).
فصل: في معرفة جدُّه الإمام
ذكر ابن رافع أنَّه: ((سبط الإمام عبد الوهَّاب بن رشَيِّق))(22). وقال الحافظ(23): ((هو جدٌّ له)).
ومثله الإمام الذَّهبيُّ في "تاريخه"(24)؛ وقال(25) هو: ((جدٌّ لأمِّه)). وقد سمَّاه باسمه؛ وقال(26): ((عبد الوهَّاب بن يوسف بن محمَّد بن خلف، الفقيه أبو محمَّد ابن الفقيه أبي الحجَّاج الأنصاريُّ القَصْريُّ المغربيُّ المالكيُّ)).
ومثله ابن رافع(27) وقال: ((الفقيه أبو محمَّد عبد الوهَّاب بن أبي الحجَّاج يوسف بن محمَّد ابن خلف بن محمَّد بن أيُّوب، الأنصاريُّ القصْريُّ المالكيُّ؛ المعروف بابن رشيِّق)). ومثله الحافظ ابن ناصر الدِّين الدِّمشقيُّ(28).
وكذلك ذكره الحافظ(29)؛ لكن من غير الكنية. وكذا الصفديُّ(30) ـــ متابعة للذَّهبيِّ! ـــ؛ فقال: ((أبو محمَّد ابن الفقيه أبي الحجَّاج القصْريِّ)).
قال ابن ناصر الدِّمشقيُّ ـــ في معنى قوله القصْريِّ ـــ(31):
((من أهل قَصْر عبد الكريم من الغرب، ولهذا يقال له: القَصْريُّ))(32).
قال الذَّهبيُّ(33) فيه: ((الفقيه القدوة،...، شيخٌ عالم، صالحٌ خيِّرٌ، ذو مروءةٍ وفتوَّة وتعفُّفٍ وفقر.
حمل عن أبيه الرَّاوي(34)، عن عياض(35) وأبي بكر بن العربيِّ(36) وعن عبد الجليل القصريِّ(37) مصنِّف "شعب الإيمان"... )).
وقال الحافظ الدِّمشقيُّ(38): ((سمع من أبيه الفقيه أبي الحجَّاج يوسف بن رشيِّق الأندلسيِّ.
وأبوه أبو الحجَّاج هذا سمع من القاضيين: أبي بكر محمَّد بن العربيِّ، وعياض بن موسى السَّبتيِّ)).
قال الذَّهبيُّ(39): ((وتصدَّر بالجامع العتيق بمصر)). ومثله ابن رافع(40)؛ وزاد: ((من الفضلاء الصُّلحاء)).
وقال الحافظ(41): ((كان أحد المتصدِّرين بجامع عمروٍ)).
كتب عنه الرَّشيد العطَّار(42) حكاية(43)؛ كذا ذكر الإمام الذَّهبيُّ؛ وقال(44): ((ومات ليلة عيد الفطر، عن ثلاثٍ وستِّين سنة)). ونحوه ابن رافع وكذا ابن ناصر الدِّين؛ وقالا: ((في سنة خمسين وستُّمائة))، ومثلهم الحافظ(45).
فصل: في معرفة أمِّه العابدة
قلت: أمُّه تسمَّى (فاطمة!!)؛ وهي ابنت الفقيه أبو محمَّدٍ عبد الوهَّاب المالكيُّ. قال ابن رافع(46):
((وابنته فاطمة امرأةٌ صالحةٌ عابدةٌ كثيرة الأوراد)). ونحوه أيضاً في "التَّبصير"(47). ثمَّ زاد ابن رافع(48):
((توفِّيت في ليلة نصف شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة. ودفنت بمقبرة الصُّوفيَّة بظاهر دمشق. ذكرها شيخنا أبو محمَّدٍ البرزاليُّ(49) في "تاريخه".. )).
فصل: في معرفة مشايخه
قلت: من المعلوم أنَّ له شيخان اثنان؛ وهما:
الأوَّل: وهو أصل هذه التَّرجمة؛ وهو شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، وهو غنيٌّ عن التَّعريف كما تعلم.
والآخر: أبا الحسن عليِّ بن المظفَّر بن إبراهيم الكنديِّ الوداعيُّ(50) صاحب "التَّذكرة الكنديَّة"!!!
قال ابن رافع(51): ((سمع من أبي الحسن عليِّ بن المظفَّر بن إبراهيم الكنديِّ، وكتب عن الشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة كثيراً من كلامه)).
ونحوه الحافظ ابن حجر في "التَّبصير"(52).
وكذلك لا ننسى شيخه الأوَّل(53)؛ وهو جدُّه الفقيه أبو محمَّدٍ عبد الوهَّاب المالكيُّ!!! ـــ فهو هنا وبحكم النَّشأة ودم القرابة، وأيضاً بحكم التَّعليم الأوَّلي ـــ يكون بلا ريبٍ قد أخذ عنه الفقه والمذهب المالكي؛ وهذا لا ينكره إلاَّ معاندٌ أو جاحدٌ(54).
فصل: في معرفة بعض من صفاته وأحواله
قلت: وممَّا قد حكاه عنه الحافظ ابن كثير هنا قوله: ((...ديِّناً، عابداً، كثير التِّلاوة، حسن الصَّلاة، له عيالٌ وعليه ديونٌ؛ رحمه الله وغفر له آمين(55) )).
فصل: في معرفة ما قالوا فيه
قلت: ومن المهمِّ هنا! أن نعرف ما قالوا فيه من عدالةٍ أو جرحٍ إن وجد ما يعدَّل به أويجرَّح، و هذا ـــ كما تعلم!! ـــ من أمانة العلم والنَّقل.
والموجود عندنا هو فقط ما ذكره الحافظ ابن كثير من قوله فيه: ((لا بأس به!!))(56). وهذه من ألفاظ التَّعديل، زيادة أيضاً إلى إطلاق كلٌّ من ابن عبد الهاديِّ(57) وابن مرِّي الحنبليِّ(58) فيه بأنَّه: ((شيخ!!)). ومثلهما أيضاً ابن حامد الشَّافعيُّ في "رسالته"(59) له؛ ذكرها صاحبي "الجامع"(60) وصاحب "العقود الدريَّة". زيادة أيضاً إلى قول الإمام الذَّهبيِّ فيه: ((صاحبنا الفقيه!!))(61).
وكلامه هذا قد حوى لنا في طيِّه فائدتان دقيقتان:
الأولى: في إطلاق الصُّحبة له؛ أي أنَّه رحمه الله صاحب أصحاب وتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ كالذَّهبيِّ وابن كثير وابن قيِّم الجوزيَّة وابن عبد الهاديِّ وابن مرِّي وغيرهم، فضلاً كذلك عن صحبته له هو بعينه والتَّتلمذ عليه.
والثَّانية: في إطلاق عليه لقب الفقيه؛ كيف لا؟! وهو حفيد الفقيه، ثمَّ هذه شهادة لها وزنٌ هنا؛ فتنبَّه!!!
فصل: في مناقشة كلام ابن كثير فيه
وكذا في ذكر مؤلَّفاته
قلت: لقد ذكرنا سابقاً (ص/13) أنَّ له معرفة بشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، كما قد كتب كتبه!!! كما حكاه ابن رافع(62)؛ وقال: ((وكتب عن الشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد بن عبد الحليم بن تيميَّة كثيراً من كلامه)). بينما الحافظ ابن كثير يقول ـــ موضِّحاً ذلك ومصرِّحاً ومؤكِّداً ـــ أنَّه: ((كاتبُ مصنَّفات شيخنا العلاَّمة ابن تيميَّة))(63). ومثله الزِّركلِيُّ(64).
ثمَّ زاد ابن كثير؛ فقال: ((كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه، إذا عزَب شيءٌ منه على الشَّيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة))(65).
وهذا كلامٌ(66) دقيقٌ يحوي على لطيفتين هامَّتين:
الأولى: أنَّه بحقٍّ يعتبر ـــ وهذا اعترافٌ وشهادة من ابن كثيرٍ ـــ الكاتب والنَّاسخ الأليَقُ والأجدرُ لما كتبه شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، كما يكون أيضاً!! قد نسخ كلَّ مصنَّفاته الكثيرة؛ وهو محتملٌ هنا! أو قل البعض منها؛ وهذا واضحٌ من قول ابن كثير وابن مرِّي الآتي. كما أنَّه ومن الممكن جدًّا! أن يقال ـــ وهو محتملٌ هنا ومقبولٌ!! ـــ: أن يكون هو السَّبب في اشتهار وانتشار كلَّ كتب شيخ الإسلام؛ والله أعلم.
والثَّانية: في قوله: ((كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه، إذا عزَب شيءٌ منه على الشَّيخ استخرجه أبو عبد الله هذا))؛ فهذا شاهدٌ قويٌّ، وقيدٌ في غاية الدقَّة والأمانة يؤكِّد ما ذهبنا إليه في اللَّطيفة الأولى!!! من أنَّه ـــ والله أعلم ـــ هو سبب انتشار كتب شيخ الإسلام؛ وهذا بما امتاز به من دون غيره ممَّن كان أقرب منه، فإنَّه له خصوصيَّتان قد أهَّلتاه وميَّزتاه عن كثيرٍ من تلامذته:
(أحدهما): سرعة الكتابة كما أفاده الحافظ ابن كثير؛ أي: في الكتابة والنَّسخ، إمَّا ما يمليه الشَّيخ، أو ما كتبه هو بيده رحمه الله.
وهو بهذا! يكون له السَّبق والتفرُّد في كتب الشَّيخ ابن تيميَّة، كما يكون باعتبار هذا! الفضل في انتشارها.
(والأخرى): في معرفته الجيِّدة والفائقة بخطِّ شيخ الإسلام رحمه الله؛ حتَّى أنَّه كان من أبصر به منه، وهي ميزةٌ في غاية الأهميَّة هنا لمن يتدبَّر أو ينتبه! لأنَّه إذا ما عزب شيخ الإسلام عن خطِّه، فبالأحرى تلامذته ومن ينقل عن كتبه أو ينسخها؛ هم أولى بهذا العزب هنا كما تعلم!!؟ فممَّا كانت الإستفادة والإعتماد في هذه الحالة؛ وهي معضلةٌ! على ما امتاز به فقط هذا المغربيُّ ابن رشيِّق؛ في فكِّ الخطِّ وقراءته كما يجب أن يكون في أصله. وهو بهذا! يكون له الفضل في انتشار كلَّ كتب شيخ الإسلام أو بعضها على الأقلِّ؛ انتشاراً يليق بإمامته وجلالته، ويليق كذا بوزنه الثَّقيل في عالم السَّلفيَّة.
((تتمَّةٌ مفيدةٌ)): يقال: إنَّ الشَّيخ ابن رشيِّق المغربيِّ، وكذا شيخ الإسلام ابن القيِّم الجوزيَّة؛ هما من أخصِّ النَّاس بشيخ الإسلام، إذ يختصُّ كلٌّ منهما بما يفوت الآخر.
فلابن رشيِّق هذا! من النُّفوذ في المعرفة بخطِّه ـــ كما علمته آنفاً!!! ـــ وأيضاً بتفاريق فتاويه الكثيرة ما قد يفوت ابن القيِّم الجوزيَّة، وعند ابن القيِّم الجوزيَّة من الإختصاص بشيخه في (السِّجن!) وخارجه ما يعزب عن علم المغربيِّ، وفي كلِّ فضلٍ وخيرٍ.
لكنَّ - وكما يقال: - أنَّ خصوصيَّة التَّلميذ وقربه من الشَّيخ قد لا تعني تقدُّمه في العلم، بل و لا ضبط علم شيخه. وقد وجد من لازم العلماء دهراً طويلاً، ولم يكن كغيره ممَّن قلَّ ملازمتهم وكثر انتفاعهم به؛ وهو ما حكاه أحد الإخوان في الشَّبكة؛ وهو حقٌّ لا يردُّ، ولا يشاحح فيه، بل وكما قيل: "العلم مواهب!!!؟".
فلا عجب! أن ترى ابن رشيِّق هذا؛ أنَّ أكثر ما مدح فيه أنَّه كاتب كتب الشَّيخ متمكِّنٌ من قراءة خطِّه؛ لا يخفى أنَّ هذا مدحٌ مخصوصٌ؛ لا يلزم منه غير ما عيِّن كما أفاده من قبل الحافظ ابن كثير.
إلاَّ أنَّ الإمام الذَّهبيُّ له رأيٌ آخر فيه! فقد نعته رحمه الله في كتابه "المشتبه"(67) بـ: ((صاحبنا الفقيه!!!)). وهي منه زيادة علمٍ يعتدُّ بها هنا! فلا يهضم حقَّه في كونه ثقةٌ؛ كما هو مفهومٌ من قوله: ((صاحبنا))، وأنَّه أيضاً! صاحب فقه(68). وهو على المذهب (المالكيِّ!)؛ كما نسبه ابن رافع آنفاً؛ فقيل له: المالكيُّ!!!
لكنَّه وبالرَّغم من ذلك! فهو لا يقارن ـــ أبداً ـــ بتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة المبرزين؛ ولا نحاول أن نقول ذلك أو ندَّعيه؛ بعد تلميح ابن كثير إلى ذلك.
وهذه نكتةٌ مهمَّةٌ! يجب التَّنبيه عليها وبيانها، وهي واضحةٌ جليَّةٌ في عبارته السَّابقة؛ قال رحمه الله: ((كاتب مصنَّفات..، كان أبصر بخطِّ الشَّيخ منه..، سريع الكتابة، لا بأس به..)).
فهو لم يصفه بشيءٍ من العلم، بل كان جلُّ المدح على تلك المزيَّة؛ وهي لا تضرُّ ألبتَّه! بعد وصف الذَّهبيُّ له بالفقيه، وأيضاً إطلاق المشيخة عليه كلٌّ من الحافظ ابن عبد الهاديِّ، وكذا الشَّيخ ابن حامد الشَّافعيِّ؛ والذي قال فيه: ((الشَّيخ الإمام العالم العامل))(69). وهذه زيادة(70) في باب (الإمامة والعلميَّة!) تلحق في ما ذكرناه فيه سابقاً في مكانه.
وأيضاً ابن مرِّي الحنبليُّ؛ وهو ما أكَّده تأكيداً أكيداً! في "رسالته(71)" إلى تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ فقال: ((فاحتفظوا بالشَّيخ أبي عبد الله ابن رشيِّق ـــ أيَّده الله ـــ وبما عنده من الذَّخائر والنَّفائس، وأقيموا لهذا المهمِّ الجليل بأكثر ما تقدرون عليه، ولو تألمَّتم أحياناً من مطالبته؛ لأنَّه بقي في فنِّه فريداً(72)!!! ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق، وكلُّ أحوال الوجود لا بدَّ فيها من العوارض والأنكاد؛ فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بجموع كلفته؛ فإنَّ الشَّدائد تزول، والخيرات تغتنم!!!؟ فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم، وأنا أستودع الله دينه وما عنده، وأوصيه بالصَّبر أيضاً وبمعاملة الله سبحانه في ما هو فيه(73)، وإن قصَّر الإخوان في حقِّه، وليطلب نصيبه من الله تعالى متَّكلاً عليه في رزقه المضمون، ومجْمِلاً في الطَّلب؛ لأنَّه ما قُسِّم لا بدَّ له أن يكون))(74).
ومثله ـــ أيضاً ـــ الحافظ ابن عبد الهاديُّ المقدسيُّ في "العقود الدُّرِّيَّة"(75)؛ فقال رحمه الله: ((قال الشَّيخ أبو عبد الله [يعني به: ابن رشيِّق](76): لو أراد الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله أو غيره حصرها يعني مؤلَّفات الشَّيخ لما قدروا؛ لأنَّه ما زال يكتب، وقد منَّ الله عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقلٍ.
وأخبرني غير واحدٍ: أنَّه كتب مجلَّداً لطيفاً في يومٍ. وكتب غير مرَّة أربعين ورقةً في جلسةٍ وأكثر.
وأحصيت ما كتبه في يومٍ وبيَّضْتُه فكان ثماني كراريس في مسألةٍ من أشكل المسائل، وكان يكتب على السُّؤال الواحد مجلَّداً، وأمَّا جواب؛ يكتب فيه خمسين ورقةً وستِّين وأربعين وعشرين فكثير، وكان يكتب الجواب؛ فإن حضر من يبيِّضه وإلاَّ أخذ السَّائل خطَّه وذهب. ويكتب قواعد كثيرة في فنونٍ من العلم في الأصول والفروع والتَّفسير وغير ذلك، فإن وجد(77) من ينقله من خطِّه وإلاَّ لم يشتهر، ولم يعرف، وربَّما أخذه بعض أصحابه(78)؛ فلا يقدر على نقله ولا يردُّه إليه فيذهب.
وكان كثيراً ما يقول(79): قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشَّيء؛ فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو!؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردُّوا خطِّي وأظهروه ليُنقل، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يعرف اسمه ولا أين هو؟! فلهذه الأسباب وغيرها تعذَّر إحصاء ما كتبه، وما صنَّفه، وما كفى هذا! إلاَّ أنَّه لمَّا حُبس وتفرَّق أتباعه، وتفرَّقت كتبه، وخوَّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، ذهب كلَّ أحدٍ بما عنده، وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرِّب بما عنده، وهذا يبيعه أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتَّى أنَّ منهم من تُسرق كتبه أو تجحد فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها، فبدون هذا تتمزَّق الكتب والتَّصانيف كلَّ ممزَّق، ولولا أنَّ الله تعالى لطف وأعان، ومنَّ وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه وتصانيفه، لما أمكن لأحدٍ أن يجمعها، ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه وجمعها وإصلاح ما فسد منها وردِّ ما ذهب منها: ما لو ذكرته لكان عجباً، يعلم به كلَّ منصفٍ أن لله عناية به، وبكلامه؛ لأنَّه يذبُّ عن سنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)).
قلت: ومن هذا النَّقل المذكور قبل قليل نستفيد بعض من مزايا هذا المغربيِّ؛ وهي:
الأولى: أنَّه كان من أخصِّ أصحاب شيخ الإسلام، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصاً على جمعه؛ وهو ما أفاده الإمام ابن عبد الهاديُّ في كتابه "العقود الدريَّة"؛ فقال(80): ((وكان من أخصِّ أصحاب شيخنا، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصاً على جمعه)). وهذا منه فيه شهادة حقٍّ وصدقٍ وعدلٍ على تلك الخصوصيَّة في الصُّحبة من جهة، ومن جهةٍ أخرى! في خصوصيَّة كثرة الكتابة والجمع(81)؛ وكفى بها من شهادة هنا.
والثَّانية: أنَّه رحمه الله كان مرجعاً حقيقيًّا لكتب شيخه ابن تيميَّة؛ وهذا بما حواه من ذخائره ونفائسه، وكذا وهو المهمُّ؛ بقدرته على قراءة وإصلاح ما عزب عن غيره، وهو ما أفاده ابن مرِّي الحنبليُّ وابن كثير، وكذا ما ذكره ابن عبد الهاديُّ آنفاً.
والثَّالثة: تفردِّه عن أقرانه في هذا الفنِّ(82).
والرَّابعة: أنَّه هو من كان يقوم بتبييض ما يكتبه شيخ الإسلام؛ بدليل قوله المنقول: ((وأحصيت ما كتبه في يومٍ وبيَّضْتُه فكان ثماني كراريس)). وهذا في الغالب!! بدليل التفرُّد المذكور.
والخامسة: أنَّه كانت بينه وبين شيخ الإسلام صحبةٌ خاصَّة، كما كانت له قبل أن يتوفَّى في سجنه بقليلٍ مكاتبات ومراسلات، ومنها ما قد صرَّح به الحافظ ابن عبد الهاديُّ؛ فقال(83):
((قال الشَّيخ أبو عبد الله بن رشيِّق:..ثمَّ لمَّا حبس في آخر عمره كتبت له أن يكتب على جميع القرآن مرتَّباً على السُّور؛ فكتب يقول: إنَّ القرآن فيه..)).
وقال(84) أيضاً: ((وأرسل إلينا شيئاً يسيراً ممَّا كتبه في هذا الحبس..)).
والخامسة: أنَّه يمثِّل ـــ في حقيقة الأمر! ـــ فهرسة(85) حيَّة وواقعيَّة لغالبيَّة كتب شيخ الإسلام رحمه الله. كيف لا؟! وهذا الشَّيخ عبد الله بن حامد الشَّافعيُّ يطلب منه ذلك؛ فقال(86): ((لكن لمَّا سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرست مصنَّفات الشَّيخ ـــ رضي الله عنه ـــ وتأخَّر ذلك عنِّي)).
والسَّادسة: أنَّه وباعتبار ما قلناه سابقا ولاحقاً! يعدُّ ـــ ولا فخر؛ ومن غير منازع!!؟ ـــ الوحيد والفريد من دون غيره؛ ممَّن أحصى أسماء مصنَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله. فإنَّ له في هذا المجال كتابٌ نفيسٌ في الباب يحمل عنوان: "أسماء مؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة"؛ حتَّى أنَّه وإلى حدِّ السَّاعة! قد بقيت منه قطعة صالحة(87)، لكنَّ النَّاس يعزونها ـــ جهلاً وخطأً! ـــ إلى ابن القيِّم الجوزيَّة، وهو ما وقع عند الدَّكتور صلاح الدِّين المنجد والشَّيخ بكر أبو زيد، ومن قبلهما الشَّيخ جميل العظْم، وكذا الشَّيخ العلاَّمة طاهر الجزائريُّ، إلى أن قيَّض الله تعالى الشَّيخ الفاضل النقَّاب محمَّد عزير شمس وكذا قرينه الشَّيخ عليُّ بن محمَّد العمران؛ فردَّا الكتاب إلى من رصَّفه وصنَّفه، ألا وهو المترجم له!!! وهو الشَّيخ المغربيُّ أبو عبد الله بن رشيِّق؛ جزاه الله خير الجزاء، وأدخله فسيح جنانه آمين!!!
فصل: تتمَّةٌ في ذكر مؤلَّفات ابن رشيِّق
وتتمَّة لما ذكرناه آنفاً! فإنَّنا نضيف هنا قائلين:
أنَّ لابن رشيِّق المغربيِّ هذا مؤلَّفان هامَّان؛ وهما:
(الأوَّل): وهو من تأليفه؛ وهو بعنوان "أسماء مؤلَّفات شيخ الإسلام ابن تيميَّة"؛ وقد رأيناه سابقاً فلا مزيد عليه.
(والثَّاني): وهو فقط من روايته؛ وهو بعنوان "فصلٌ في مبشِّرات رآها الصَّالحون للشَّيخ تقيِّ الدِّين أحمد ابن تيميَّة بعد موته إلى رحمة الله"(88)؛ يرويها محمَّد بن عبَّاد الشُّجاعيُّ عن تلاميذ الشَّيخ ومعاصريه.
قلت: ومن هؤلاء التَّلاميذ المقرَّبين بقوَّةٍ من شيخ الإسلام رحمه الله ومن أصحابه! هو الشَّيخ أبي عبد الله ابن رشيِّق المغربيُّ هذا؛ والذي يروي(89) غالبيَّة هذه الرُّؤى المذكورة في هذا الجزء أو في هذه الرِّواية الذي يرويها الشُّجاعيُّ؛ وجملتها اثنتا عشرة رؤية، انفرد ابن رشيِّق بسبعٍ منها، والبقيَّة لغيره ممَّن ذكرت أسماؤهم فيها(90).
الخاتمة
هذا! وقد أتينا في الأخير على ختام وإتمام هذه التَّرجمة الموجزة، بما لها أو عليها!!؟ لكنَّ الحقَّ والحقُّ نقول: أنَّ إخوانه وأقرانه قد قصَّروا في حقِّه؛ إذ كان رحمه الله يعاني من شظف العيش ومرارة الحياة بسبب قلَّة المال لديه، وهو ما أكَّده سابقاً الحافظ ابن كثير، وكذا الشَّيخ أحمد بن مرِّي الحنبليُّ كما في "رسالته"(91) السَّابقة؛ والشَّاهد فيها هو قوله مثلاً: ((..فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بمجموع كلفته)). وقوله أيضاً: ((وأوصيه بالصَّبر أيضاً، وبمعاملة الله سبحانه فيما هو فيه، وإن قصَّر الإخوان عنه!!!)). وقوله: ((فساعدوه وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همَّته)).
فهذا يدلُّك على فقر(92) الرَّجل فعلاً!! ومع ذلك قام بما هو عليه واجبٌ في نشر كتب شيخه وجمعها كما يجب؛ فجزاه الله خير الجزاء.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا ورسولنا وحبيبنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتَّبع سبيلهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
كتبه بقلمه راجي عفو ربِّه: أبو حامد الإدريسي
يوم السبت بعد صلاة العصر 19 محرم 1440هـ الموافق لـ 29 سبتمبر 2018م