بسم الله الرحمن الرحيم
--
نتكلم عن سيرة عالم من علماء هذه الأمة وملك من ملوكها العظام.. إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، متعفنة بالتحلل والترف، ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب، فهل تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل؟!.. أم تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده قد حقق هذا المستحيل فعلاً؟!.. ليس في عشرين سنة، ولا في عشرة أعوام، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام.1
أولاً: اسمه وكنيته ونسبه وولادته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية.
وأمه: هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.2
ولادته: ولد عمر بحلوان قرية بمصر و أبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل ثلاث وستين3.
ثانياً: نشأته حال صغره وتربيته:
كان عمر -رحمه الله- ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان -رحمه الله- يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار.. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه.
وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها، ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان -رحمه الله- يتأنق في كل شيء، حتى المشية التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ"المشية العمرية".
ثم إنه -رحمه الله- مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه -رحمه الله- كان فيه حب للعلم وأهله كما سيأتي.
لقد جمع القرآن وهو صغير،4 تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال: " لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي".. ورغب إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان -رحمه الله-.
ثم لا يكاد ينزل بها حتى يتصل بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته، وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً.
ومما يذكر أن صالح بن كيسان -رحمه الله- كان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري. فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة. وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره.
ومما يذكر من بكائه حال صغره وخوفه: أنه لما حج أبوه اجتاز به في المدينة، فسأل صالح عنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وقد بكى يوماً وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
وأما سبب تسميته بأشج بني أمية: فعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد.5
ثالثاً: زواجه وأولاده:
لما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجه6
رابعاً: صفاته الخلْقية والخُلقية:
كان -رحمه الله- أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب.7
وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات.8
خامساً: بشارات به:
كان عمر بن الخطاب يقول: "من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً"، أخرجه الترمذي في تاريخه. فصدق ظن أبيه فيه.
وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جوراً.
وأخرج عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة وكانوا يرون أنه هو حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز.9
سادساً: بعض مواقفه في عهد سليمان بن عبد الملك:
كان سليمان بن عبد الملك من أمثل الخلفاء، نشر عَلَم الجهاد، وجهّز مائة ألف برّاً وبحراً، فنازلوا القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة.
واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشاراً ووزيراً وقال له: إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فليكتب.
وكان من ذلك عزل نواب الحجاج، وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الأسرى، وبذل الأعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان
يسمعها من عمر بن عبد العزيز.10
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة ومواقف:
جاءته الخلافة دون أن يسعى لها وكان كارها لها إذ أوصى له بها سليمان بن عبد الملك بناء على مشورة من العالم الجليل "رجاء بن حيوة الكندي" الذي كان مقرباً من سليمان يأتمنه ويأخذ برأيه.
وحين آلت الخلافة إليه لم يسر على نهج سلفه سليمان، ولم يقبل على الدنيا واتخذ من سيرة جده عمر بن الخطاب مثلاً يحتذي به ويسير على هديه، فاعتمد على الفقهاء وقربهم، وجعل للقاضي منزلة ممتازة ومستقلة وكانت الدولة في رأيه لا تصلح إلا بأركانها الأربعة: الوالي، والقاضي، وصاحب بيت المال، والخليفة، وفي هذا يقول: "إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا".11
ويروى أنه عندما تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ بأهل بيته فأخذ ما كان في أيديهم وسمى ذلك المظالم ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته -وكان يعزها ويكرمها- وسألوها أن تكلمه فيما اعتزم، فقالت: إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منه خير غيرك، قال: "منعتهم حقاً!، ولا أخذت منهم حقاً"، فقالت: إني رأيتهم يتكلمون وإني أخاف أن يهجوا عليك يوماً عصيباً، فقال: "كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره"، قال: ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء فألقاه على الخبث، فنش، فقال: "أي عمة أما تأوين لابن أخيك من مثل هذا؟" فقامت فخرجت على قرابته، فقالت: تزوجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشبه جزعتم! اصبروا له.12
ومن المواقف ما حدّث اللّيث بن سعد: أنه بلغه أن مسلمة بن عبد الملك لمّا رأى عمر بن عبد العزيز اشتدّ وجعه، وظنّ أنه ميّت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالةً لاشيء لهم، ولابدّ لهم ممّا لابدّ لهم منه، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أمّا ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حقّ غيرهم، وأمّا ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصّالحين؛ ادعهم لي، قال: فدعوتهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه، فقال: بأبي فتيةً تركتهم عالةً، وإنّما هم أحد رجلين: إمّا رجل يتّقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإمّا رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قوّيته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذّمّة إلاّ سيرى لكم حقاً. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.13
دروس من حياة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
من خلال ما سبق من سيرة هذا الخليفة الراشد نستفيد الآتي:
1- ثبات مدى تخلي عمر بن العزيز عن مظاهر الخلافة وزهده وأنه كان يحمل بين جوانبه نفساً تواقة للمعالي وكأنه يتمثل بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
2- القدوة: حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
3- ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ.
4- وضح الرؤية في الخطوات الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الاختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، ونشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، واهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،...الخ.
هذا قليل من كثير من حياة عمر بن عبد العزيز، حيث تحفل حياته بكثير من الدروس والعبر ولكن ربما لا يتسع المجال لذكرها.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما وفق إليه من اصطفاهم من أحبابه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
---
صيد الفوئد
--
نتكلم عن سيرة عالم من علماء هذه الأمة وملك من ملوكها العظام.. إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، متعفنة بالتحلل والترف، ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب، فهل تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل؟!.. أم تدهش وتذهل؛ لأنه بمفرده قد حقق هذا المستحيل فعلاً؟!.. ليس في عشرين سنة، ولا في عشرة أعوام، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام.1
أولاً: اسمه وكنيته ونسبه وولادته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد، أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص، القرشي الأُموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد، أشجُّ بني أمية.
وأمه: هي أم عاصم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.2
ولادته: ولد عمر بحلوان قرية بمصر و أبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل ثلاث وستين3.
ثانياً: نشأته حال صغره وتربيته:
كان عمر -رحمه الله- ابن والي مصر عبد العزيز، وكان يعيش في أسرة الملك والحكم، حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا الزائل، وكان -رحمه الله- يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة.. إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها من أبيه يجاوز أربعين ألف دينار.. وإنه ليتحرك مسافراً من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه.
وكان يلبس أبهى الثياب وأغلاها، ويضمخ نفسه بأبهج عطور دنياه، حتى إنه ليعبر طريقاً ما، فيعلم الناس أنه عبره، وكان -رحمه الله- يتأنق في كل شيء، حتى المشية التي انفرد بها وشغف الشباب بمحاكاتها وعرفت لفرط أناقتها واختيالها بـ"المشية العمرية".
ثم إنه -رحمه الله- مع هذا كله كان فيه نبوغ مبكر فلم تنسه هذه الدنيا وزخرفها الله تعالى والدار الآخرة، بل إنه -رحمه الله- كان فيه حب للعلم وأهله كما سيأتي.
لقد جمع القرآن وهو صغير،4 تحدث هو عن نفسه وطفولته فقال: " لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي".. ورغب إلى والده أن يغادر مصر إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان -رحمه الله-.
ثم لا يكاد ينزل بها حتى يتصل بالشيوخ والعلماء والفقهاء، متجنباً أترابه ولِدَاته، وأقبل على العربية وآدابها وشعرها فيستوعب من ذلك كله محصولاً وفيراً.
ومما يذكر أن صالح بن كيسان -رحمه الله- كان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري. فقال: بلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة. وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره.
ومما يذكر من بكائه حال صغره وخوفه: أنه لما حج أبوه اجتاز به في المدينة، فسأل صالح عنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
وقد بكى يوماً وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، فبكت أمه حين بلغها ذلك.
وأما سبب تسميته بأشج بني أمية: فعن ثروان مولى عمر بن عبد العزيز قال: دخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إلى إصطبل أبيه فضربه فرس فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد.5
ثالثاً: زواجه وأولاده:
لما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجه6
رابعاً: صفاته الخلْقية والخُلقية:
كان -رحمه الله- أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة وكان قد شاب وخضب.7
وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات.8
خامساً: بشارات به:
كان عمر بن الخطاب يقول: "من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً"، أخرجه الترمذي في تاريخه. فصدق ظن أبيه فيه.
وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جوراً.
وأخرج عن ابن عمر قال: كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة وكانوا يرون أنه هو حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز.9
سادساً: بعض مواقفه في عهد سليمان بن عبد الملك:
كان سليمان بن عبد الملك من أمثل الخلفاء، نشر عَلَم الجهاد، وجهّز مائة ألف برّاً وبحراً، فنازلوا القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة.
واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز مستشاراً ووزيراً وقال له: إنا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره فما رأيت من مصلحة العامة فمر به، فليكتب.
وكان من ذلك عزل نواب الحجاج، وإخراج أهل السجون منها، وإطلاق الأسرى، وبذل الأعطية بالعراق، ورد الصلاة إلى ميقاتها الأول بعد أن كانوا يؤخرونها إلى آخر وقتها، مع أمور حسنة كان
يسمعها من عمر بن عبد العزيز.10
عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- خليفة ومواقف:
جاءته الخلافة دون أن يسعى لها وكان كارها لها إذ أوصى له بها سليمان بن عبد الملك بناء على مشورة من العالم الجليل "رجاء بن حيوة الكندي" الذي كان مقرباً من سليمان يأتمنه ويأخذ برأيه.
وحين آلت الخلافة إليه لم يسر على نهج سلفه سليمان، ولم يقبل على الدنيا واتخذ من سيرة جده عمر بن الخطاب مثلاً يحتذي به ويسير على هديه، فاعتمد على الفقهاء وقربهم، وجعل للقاضي منزلة ممتازة ومستقلة وكانت الدولة في رأيه لا تصلح إلا بأركانها الأربعة: الوالي، والقاضي، وصاحب بيت المال، والخليفة، وفي هذا يقول: "إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا".11
ويروى أنه عندما تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ بأهل بيته فأخذ ما كان في أيديهم وسمى ذلك المظالم ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته -وكان يعزها ويكرمها- وسألوها أن تكلمه فيما اعتزم، فقالت: إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منه خير غيرك، قال: "منعتهم حقاً!، ولا أخذت منهم حقاً"، فقالت: إني رأيتهم يتكلمون وإني أخاف أن يهجوا عليك يوماً عصيباً، فقال: "كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره"، قال: ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمر تناوله بشيء فألقاه على الخبث، فنش، فقال: "أي عمة أما تأوين لابن أخيك من مثل هذا؟" فقامت فخرجت على قرابته، فقالت: تزوجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشبه جزعتم! اصبروا له.12
ومن المواقف ما حدّث اللّيث بن سعد: أنه بلغه أن مسلمة بن عبد الملك لمّا رأى عمر بن عبد العزيز اشتدّ وجعه، وظنّ أنه ميّت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالةً لاشيء لهم، ولابدّ لهم ممّا لابدّ لهم منه، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أمّا ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم، وما كنت لأعطيهم حقّ غيرهم، وأمّا ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصّالحين؛ ادعهم لي، قال: فدعوتهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عيناه، فقال: بأبي فتيةً تركتهم عالةً، وإنّما هم أحد رجلين: إمّا رجل يتّقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإمّا رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قوّيته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير لن تلقوا أحداً من المسلمين ولا أهل الذّمّة إلاّ سيرى لكم حقاً. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.13
دروس من حياة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-:
من خلال ما سبق من سيرة هذا الخليفة الراشد نستفيد الآتي:
1- ثبات مدى تخلي عمر بن العزيز عن مظاهر الخلافة وزهده وأنه كان يحمل بين جوانبه نفساً تواقة للمعالي وكأنه يتمثل بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
2- القدوة: حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
3- ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ.
4- وضح الرؤية في الخطوات الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الاختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، ونشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، واهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،...الخ.
هذا قليل من كثير من حياة عمر بن عبد العزيز، حيث تحفل حياته بكثير من الدروس والعبر ولكن ربما لا يتسع المجال لذكرها.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما وفق إليه من اصطفاهم من أحبابه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
---
صيد الفوئد